جسر: رأي:
أتت الأيام الأخيرة حافلة بأخبار الانتهاكات في عفرين، أكثرها بروزاً على الصعيد الإعلامي مقتل السيدة حورية محمد بكر “74 عاماً” متأثرة بالاعتداء عليها أثناء سطو مسلح، إثر مقتل زوجها في الحادثة ذاتها بعد ربطهما وتعرضهما للضرب المبرّح وسرقة مبلغ 100 ألف ليرة مع جهازي هاتف محمول وراوتر. في هذا الشهر أيضاً، قبل خمسة أيام، قُتل تحت التعذيب الشاب حمادة حنيف حسين بعد اقتياده من قبل الشرطة العسكرية التابعة لما يُسمى الجيش الوطني إلى السجن بتهمة التعامل مع الإدارة الذاتية الكردية التي كانت تحكم المنطقة من قبل.
في حادث آخر، قامت مجموعة من فصيل سمرقند قبل أربعة أيام بمهاجمة متجر لبيع المازوت في قرية كفر صفرة، لأن صاحبه الملقّب بأبي حلبجة رفض بيعهم المازوت بالدَين لعدم سدادهم ديناً سابقاً، وتدخل بعض الأهالي لحماية الرجل فأطلقت المجموعة الرصاص واعتدت بالضرب على الأهالي، ثم اقتادت البعض منهم إلى جهة مجهولة. على الصعيد نفسه، قامت مجموعة مسلحة في منطقة يسيطر عليها فصيل الحمزات باختطاف راعٍ برفقة رؤوس الماشية، ثم أطلقت سراحه في مكان ناء بعد الاستيلاء على الماشية. وبين هذا وذلك تتواتر الأخبار عن قطع أشجار الزيتون العائدة للأهالي من قبل المسلحين، وأغلب الظن أن الهدف هو المتاجرة بالحطب في منطقة تعاني من شح في وقود التدفئة وارتفاع في أسعاره.
مع توارد تلك الأخبار، وهي بمثابة نهج مستمر لتلك الفصائل، لا يندر خارج الأوساط الكردية أولئك الذين يبدؤون بإنكارها، ثم التشكيك بتفاصيلها. وأخيراً لا يندر، عند الاضطرار للإقرار بها، أن يعتبروها غيضاً من فيض الانتهاكات على امتداد الأراضي السورية، ومنها الانتهاكات التي تمارسها وحدات الحماية الكردية في مناطق ذات أغلبية عربية، مستنكرين التركيز على عفرين وإعطاء ضحاياها أية أولوية على ضحايا آخرين. لن نعدم أيضاً أولئك الذين يبادرون إلى إلقاء التهم كيفما اتفق، من نوع اعتبار أي عربي يستنكر تلك الانتهاكات محابياً للأكراد لأسباب شخصية، بينما على المقلب الكردي تتكاثر أصوات لا تريد أصلاً أي تعاطف عربي، لأن هذا التعاطف يخدش تصويرها العرب كأعداء ووحوش بالمطلق.
في وسع من يبحث عن هذا النوع من السلوى أن يجد ضالته في أرشيف الميليشيات الكردية، وحتى في انتهاكاتها في عفرين نفسها عندما كانت تحت سيطرتها. ويمكننا الإحالة إلى أصوات كردية مؤثرة كانت أولاً تنفي حدوث الانتهاكات، من نوع تكريد أسماء بعض القرى والبلدات أو فرض التعليم كاملاً باللغة الكردية على العرب، ثم تبررها بذريعة أفعال مماثلة للحكم “العربي” خلال نصف قرن. إلا أننا نتعاطى مع الأمر خارج المنطق السائد، المنطق الذي ينكر الضحية بدايةً، ثم يفقدها حقها من التعاطف في حلقة من الثأر والثأر المتبادل.
بالطبع تخصيص عفرين لا يستند إلى دوافع أخلاقية ينبغي أن تنسحب على كافة الضحايا الأبرياء لدى من تعنيهم هذه الدوافع. هو ينطلق فوق ذلك من دوافع سياسية، وإذا كانت الأخيرة مفهومة من قبل الأكراد أصحاب الشأن فهي ليست واضحة، أو غير متفق عليها، بين أصحاب الشأن من نظرائهم العرب. المبرر الذي يسوقه كثر عن تأثير الانتهاكات المتبادلة على مستقبل التعايش بين العرب والأكراد، على أهميته، ليس كافياً أو لا يبدو ملحّاً الآن في ظل انقسام السوريين وتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية.
في التمييز بين الميليشيات الكردية ونظيرتها العربية، يجدر بنا تذكر أن الأولى لم تزعم يوماً الانتساب إلى الثورة، وهناك وقائع موثقة قامت فيها بقمع متظاهرين أكراد ضد الأسد، بل قامت بإطلاق النار وأوقعت قتلى بينهم، ولطالما نُظر إليها في الأوساط العربية كحليفة للأسد قبل تحالفها مع الأمريكان، ولم يكن قد شاع وقتها وصفها بالانفصالية. في المقابل منها لدينا ميليشيات تزعم الانتساب إلى الثورة، وتنطق رسمياً باسم الجيش الحر من دون اعتراض من القوى السياسية التي تدعي تمثيل الثورة، بصرف النظر عما بات يراه كثر من كونها مجموعات مرتزقة خاضعة كلياً للأجندات التركية.
معرفة بعضنا بالواقع الذي يكمن خلف المظاهر والشعارات لا تكفي، فالموجود عملياً هم أولئك الذين يستخدمون علم الثورة، ويستخدمون تسمية “الجيش الحر” التي حظيت يوماً باحترام بعض مناصري الثورة، ويتبنون النهج التركي إزاء الأكراد بحذافيره ويزايدون عليه في أغلب الأحيان. لا يقتصر ذلك على فصائل عسكرية، فهناك على المستوى السياسي إسلاميون بتنويعاتهم “وبهيمنتهم على مؤسسات المعارضة” يشاركون العسكر تبعيتهم لأنقرة وعداءهم للأكراد، بل وصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بعودة الفرع السوري إلى الأصل التركي! بما تحمله هذه المطالبة من تزييف للتاريخ الإسلامي نفسه، وكأن سوريا لم تكن أساساً ومنطلقاً لبناء الإمبراطورية الإسلامية قبل مئات السنين من مجيء العثمانيين.
إذا توخينا الواقعية، لن تستطيع أصوات متفرقة على وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها إثبات أن هؤلاء لا يمثلون الثورة، أو لا يمثلون مآلها الأسوأ. ونخطئ كثيراً إذا لم نرَ تأثير هذا المآل على سردية الثورة ككل، بخاصة مع وجود قوى مؤثرة جداً تريد فرض روايات مختلفة عن الحدث السوري، ولا تقتصر هذه القوى على تلك المعادية للثورة مباشرة، وأفضل مساعدة لها اعتبار هذه النهاية اختصاراً للقصة كلها منذ بدايتها.
بكل الأسف القادم من المآلات، تستحق ثورة باهظة الثمن أن تنهزم بشرف، وأن تكون نهايتها المشرّفة هي الإرث الذي يبقى فاعلاً في الوجدان العام. التصدي لأولئك الذين يستخدمون رمزيات الثورة، من علَم وتسميات، هو دفاع عما ينبغي أن يبقى كإرث سوري عام. من هذا المنطلق، فضلاً عن الاعتبارات الأخلاقية الملازمة له، لا يجوز تبرير الجريمة بالجريمة أو بمنطق الثأر، ولا يجوز مساواة من يدّعون تمثيل الثورة بخصومها، لأن من يدّعون تمثيل الثورة “حقاً أو زوراً” هم الأولى بالمحاسبة كرمى لما تمثّله قبل وبعد أي اعتبار آخر.
المدن 14 أيلول/سبتمبر 2019