جسر:صحافة:
لغط كبير أثير حول قرار المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري يوم الثلاثاء، إذ بدا القرار مخيباً للآمال وأصغر بكثير من حجم الجريمة بأبعادها السياسية والإرهابية.
والواقع أن التعامل مع النص الحرفي للقرار على هذا الأساس يعتبر منطقياً، إذ اكتفى قضاة المحكمة بتوجيه التهم لعناصر وقادة في حزب الله اللبناني بالمسؤولية عن الانفجار الذي أودى بحياة الحريري و٢١ آخرين صبيحة ١٤ شباط عام ٢٠٠٥.
وبقدر ما أزعج ذلك الذين انتظروا العدالة طيلة ما يزيد على ١٤ عاماً، والذين كانوا يأملون أن تشكل هذه المحكمة على بطء إجراءاتها، واقتصارها على محاكمة المتهمين غيابياً، بوابة حساب عسير آن أوانها لحزب الله والنظام السوري وحاميتهما إيران، بقدر ما أفرح القرار هذه الأطراف المتهمة التي سارع إعلامها للترويج إلى أن المحكمة الدولية أقرت أخيراً بعدم مسؤولية الحزب اللبناني ونظام الأسد عن هذه الجريمة.
ردة فعل دفعت كثيرا من المختصين الحقوقيين من أنصار العدالة والحقيقة للتفاعل على الفور مع الحدث، وتوضيح مضمون قرار المحكمة الدولية وأبعاده القانونية والسياسية، بما يؤكد عكس الذي أراد تحالف الشر في دمشق وطهران وضاحية بيروت الجنوبية الترويج له إعلامياً، بمساعدة بعض المحطات ووسائل الإعلام العربية التي تدعى وبكل أسف وقوفها مع الثورة السورية وأعداء الشعوب من أنصار الثورات المضادة والإنقلابيين!
ومع حالة الإحباط التي سادت فور الإعلان عن قرار المحكمة، تداعى المختصون في القانون لتوضيح عدة حقائق، عمل إعلام محور (المقاومة والممانعة) المجرم على إخفائها، لإظهار براءته وانتصاره، فأكدوا أن المحاكم الجنائية الدولية تقوم على مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، وهي لا تدين الجماعات والكيانات السياسية، بل الأفراد في هذه الكيانات المنفذين المباشرين للجرائم السياسية التي تكتسب بعداً دولياً، مثل جريمة اغتيال الحريري، دون أن يمنعها ذلك من بحث الدوافع السياسية لأي كيان أو نظام.
لقد بذلت المحكمة جهداً كبيراً كما هو واضح من أجل الالتفاف على عقبة كأداء كانت قد وضعتها روسيا إبان تأسيس هذه المحكمة، باستخدامها حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن لإزالة أي فقرة تشير إلى إمكانية اتهام أو محاكمة نظام أو كيان سياسي، في خطوة تهدف إلى توفير الحماية المسبقة لنظام الأسد وحزب الله، اللذين لا يشكك عاقل بمسؤوليتهما عن هذه الجريمة وكل جرائم الاغتيال السياسي اللاحقة التي ضربت لبنان.
لقد أكدت محكمة الحريري وجود مصلحة لنظام الأسد وحزب الله في هذه الجريمة، الأمر الذي يرقى إلى مستوى الإدانة السياسية، ويعبر حسب رأي كثيرين عن حرفية عالية تميز بها القضاء في تطبيق آليات نظام المسؤولية الجنائية الفردية، وربطها بالدافع والمستفيد السياسي الذي هو هنا نظام الأسد وحزب الله، ومن خلفهما إيران كما قلنا، إذ لا يمكن وليس من المتصور أن يقوم هؤلاء الأفراد الذين ينتمون للحزب، بمن فيهم قائده السياسي السابق مصطفى بدر الدين بتنفيذ مثل هذا العمل الإرهابي وجرائم الاغتيال اللاحقة دون أمر وتكليف من قيادتهم وهو ما بات ثابتاً إذن.
لا تقول المحكمة ببراءة قيادة حزب الله ونظام الأسد، ونصها واضح أنها لم تحز أدلة كافية لمعرفة مَن مِن قادة الطرفين تحديداً قد أعطى أوامر القتل، وهذا طبيعي طالما أن المتهمين يحاكمون غيابياً، وبعضهم قتل أو هكذا يدعي حزب الله، مثل مصطفى بدر الدين الذي نعاه الحزب خلال مشاركته مع النظام في الحرب على الشعب السوري، وبهذا تعبر المحكمة عن التزامها الحرفية المطلقة وتترك الكرة حالياً في ملعب السياسيين من قادة لبنان والمنطقة والمجتمع الدولي من أجل رفع ما تبقى من غطاء عن هذين الطرفين اللذين آن للعالم أن يضع حداً لإفلاتهما من العقاب والمحاسبة.
لقد دفع لبنان والمنطقة ثمناً باهظاً لخطيئة استثناء سلاح حزب الله من بند نزع سلاح الميليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية حسب ما أقر اتفاق الطائف، وتضاعف هذا الثمن مع التنازل عن نزع سلاح الحزب بعد جريمة اغتيال الحريري، واليوم بعد انفجار مرفأ بيروت وتحرك العالم (في الظاهر على الأقل) لمعالجة ملف لبنان المسبب للصداع على مستوى المنطقة ومحيطها، ستضاف جريمة أخرى جديدة في حال لم يتم النص بوضوح على تفكيك هذا الحزب ونزع سلاحه بالقوة ومهما كان الثمن، لأن أي ثمن سيكون أقل بكثير من الأثمان الباهظة لاستمرار هذا السلاح بيد هؤلاء المجرمين.