جسر – صحافة
من المرجح أن كثرة من السوريين لا تعرف ما تكون بوسطة عين الرمانة، البوسطة الذي صارت رمزاً لنشوب الحرب الأهلية اللبنانية بدءاً من 13 نيسان 1975. بالمعنى المجازي للبوسطة، لن يتأخر حافظ الأسد عن ركوبها، وسيبدأ في إرسال قواته على نحو غير رسمي، وصولاً إلى الزج بأكثر من عشرة آلاف جندي في مطلع صيف 1976، ليزداد العدد إلى عشرات الألوف بعد الحصول على مظلة “قوات الردع العربية” بموجب مقررات قمة الرياض السداسية في 16 تشرين الأول 1976 ثم المصادقة عليها بعد عشرة أيام في مؤتمر القمة العربية في القاهرة.
ركب حافظ الأسد بوسطة الحرب الأهلية اللبنانية، ولم ينسحب وريثه من لبنان إلا بضغوط دولية لتنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، تحديداً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مع الانسحاب في 26 نيسان 2005 كان دخول الأسد إلى لبنان يقارب نهاية عامه التاسع والعشرين، بفارق ست سنوات عن انقلاب حافظ الأسد واستلامه السلطة، وإذا احتسبنا عام 2011 نهايةً لاستقرار عهد الأسد فإن وجود قواته في لبنان امتد على ثلاثة أرباع زمن الحكم الأسدي.
من المفيد أن نتخيل، على سبيل التمرين الذهني، أن حادثة البوسطة لم تقع، ولم تكن هناك حرب أهلية لبنانية، حينها ما الذي سيكون عليه حال حافظ الأسد؟ وما الذي سيكون عليه حال سوريا؟ وبالطبع ما الذي سيكون عليه حال لبنان؟
هي أسئلة تبدو بسيطة جداً، ومتأخرة لو أنها طُرحت في زمنها، لكنها لم تُطرح بحيث تكون جزءاً من الثقافة السياسية السورية، حتى عندما بدأت هذه الثقافة بعد الثورة بنبش تفاصيل حكم الأسد. أما من الجهة اللبنانية فقد كان اهتمام المتأذين منصباً على شرح خطر الأسد على سلامة لبنان واستقلاله، والاشتباك معه كقوة وصاية أو احتلال من دون الانتباه إلى آثارهما على الأسدية ذاتها، والمكانة التي راح لبنان يشغلها في الحكم الأسدي وصعوبة التفريط فيها، والاستعداد لارتكاب مختلف أنواع الجرائم في سبيل ذلك.
الأسوأ سورياً كان انعدام الحساسية العامة إزاء تدخل الأسد من حيث المبدأ، عدم الرضا أو الإدانات القليلة أتيا بمعظمهما من موقع الخلاف السياسي المتعلق بوظيفة الجيش الذاهب إلى لبنان. يبرز هنا بشدة التعاطف التقليدي مع الفصائل الفلسطينية لدى اليسار السوري، ولدى العروبيين من خارج البعث أو ربما لدى شريحة صامتة من ضمنه. وانعدام الحساسية هذا لا يعبّر عن فرادة سورية، فنحن نراه اليوم بوفرة لدى مؤيدي حرب بوتين على أوكرانيا بذريعة كونها جزءاً من الأمن القومي الروسي. السيء جداً هو انعكاس قلة الحساسية على فهم معادلة سهلة، مفادها أن الأسد أقوى إذ يسيطر على لبنان، وأن قوته الخارجية هي ضد السوريين لا لصالحهم، وهو توضيح ضروري لأن شطراً واسعاً من الوعي واللاوعي السوري كان يرى في “إنجازات” الأسد الخارجية رصيداً لسوريا ومكانتها الإقليمية.
فيما أصبح متداولاً سورياً أن حافظ الأسد غازل في بداية عهده البرجوازية المدينية “السنية لمن يتوق إلى هذا التحديد”، ليكسبها بالمقارنة مع رفاقه اليساريين الذين انقلب عليهم. ثم، بهدف الخلاص من عاره الشخصي، شارك في حرب تشرين 1973، ليظهر في نهاية المفاوضات التي آلت إلى الهدنة مع إسرائيل بمظهر محرر القنيطرة. بعبارة أخرى، يبدو الأسد في سنوات حكمه الأولى ساعياً إلى رضا السوريين عنه، وإلى تلميع صورته داخلياً.
يجدر الانتباه في نهاية تلك المرحلة إلى ما دأب الأسديون على التباهي به، أي مفاوضات الأسد-كيسنجر لفك الاشتباك والمشاركة في مؤتمر جنيف، ولندع جانباً تفاخرهم بدبلوماسية “ملء المثانة” المنسوبة إلى الأول، فمركز التفاخر الحقيقي هو أن حافظ الأسد نال اعترافاً أمريكياً. قدوم كيسنجر إلى دمشق وسيطاً بين الأسد وتل أبيب كان أهم ما أفضت إليه حرب تشرين، وهي فرحة تبقى صغيرة بالقياس إلى الفرحة الكبرى عندما ستبارك واشنطن التدخل في لبنان.
ربما يتذكر السوريون، بدءاً من ثمانينات القرن الماضي، كيف راح البعثيون وأجهزة المخابرات يروّجون فكرة انشغال حافظ الأسد بالقضايا الاستراتيجية “الخارجية”، بحيث أن “المسكين” لا يجد وقتاً لمتابعة شؤون الداخل، الداخل المتروك وفقهم لعديمي الكفاءة والانتهازيين والفاسدين. فيما عدا أنها حالة شاذة جداً لرئيس متفرغ للخارج، كانت الرسالة الواضحة أن العلاقة بالخارج لها أولوية على الداخل السوري برمته. بهذا المعنى، لم يكن ما يُروَّج بعيداً عن الواقع، لقد أصبح حافظ الأسد خارجياً، يستمد قوته ومكانته من الخارج، ويستغني بالخارج عن السوريين، فلا يكترث بإرضائهم ولو في الحد الأدنى.
بفضل الوصاية على لبنان أولاً أصبح حافظ الأسد زعيماً إقليمياً، وهي وضعية لم يكن ليصل إليها لو بقي ضمن الحدود السورية، ولكان على الأرجح مضطراً إلى البحث عن مصادر قوة في الداخل بدل الاستقواء عليه بالخارج. لدينا مثال مبتذل عن توسل سند الداخل، عندما اضطر الوريث إلى الانسحاب من لبنان، وراح يروّج لوطنية سورية بشعارات من قبيل “أنا سوري يا نيالي”، يزيد في رثاثة تلك الوطنية الطارئة المؤقتة تلازم شعاراتها مع الشتائم البذيئة الموجهة لرموز انتفاضة الاستقلال اللبنانية.
ثمة الكثير مما يُقال عن نتائج زج الجيش في مواجهة القوى اللبنانية، واحدة تلو الأخرى، وهو الجيش الذي يُفترض أن تكون عقيدته القتالية موجهة ضد عدو يحتل أرضه. فمنذ ذلك التاريخ راج الحديث عن عملاء إسرائيل، لتكون مهمة الجيش قتال أولئك العملاء بدل قتال الأصل المزعوم “إسرائيل”، وهذا كما نعلم كان تحضيراً ممتازاً ليقاتل السوريين بوصفهم عملاء، رغم أن الجيش كما ثبت منذ عام 2011 ليس مصدر حماية الأسدية الأهم.
دخل حافظ الأسد لبنان على بوسطة عين الرمانة، وبها خرج من سوريا ليستهل مسيرة التخارج مع السوريين. تحوّلُ حكم الأسد ليصبح خارجياً، كما بات ذلك فاقعاً اليوم، لم يأتِ به وريث ضيّع مُلْك أبيه، ولم تأتِ به مؤامرات ضد السوريين حيكت في الغرف المظلمة للاستخبارات الدولية. الوقائع موجودة وتنتظر القراءة، لا من السوريين فحسب، وإنما من اللبنانيين بوصفهم أيضاً ضحايا علاقات القوة وسيولتها عبر الحدود بين البلدين على المثال الأسدي، وعلى النحو الذي استأنفه حزب الله.
المصدر: موقع المدن (عمر قدور)