جسر: رأي:
تضمن البيان الختامي للقمة الثلاثية لرعاة مسار أستانة، التي عقدت عن بعد في الأول من شهر يوليو/ تموز الجاري، إشارةً إلى أن “حل النزاع في سورية لا يمكن إلا من خلال عملية سياسية تتوافق مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254، بقيادة واستضافة السوريين، وبتسهيل من الأمم المتحدة”، مع التشديد على الدور الهام للجنة الدستورية المكلّفة بصياغة دستور سوري، والمقرّر أن تستأنف اجتماعاتها المعطّلة في جنيف أواخر الشهر المقبل (أغسطس/ آب)، ما يوحي بعودة ضامني اتفاقات أستانة وسوتشي، وخصوصا روسيا، إلى مسار جنيف الأممي الذي شكّل عدم رغبة النظام الأسدي وداعميه بتطبيقه السبب الرئيس في تعطيله وإفشاله.
وجاء تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بلاده تعمل بنشاط وبشكل قوي لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، كي يضع اللقاءات التي أجراها، أخيرا، مسؤولون روس مع ممثلين للمعارضة السورية ولمجموعات وشخصيات سورية في سياق “مناقشة آليات دفع التسوية السياسية في سورية، من خلال دفع الحوار بين السوريين أنفسهم”، الأمر يرسل إشارات إلى محاولة جديدة للساسة الروس للبحث عن ممكنات تسوية في سورية، ويطرح أسئلة حول جدّية الجهود الروسية في البحث عن مخرج سياسي في سورية، وعن الثمن الذي تريده
وكان بعض الساسة الروس قد بدأوا، منذ مدّة، عملية إرسال رسائل متعدّدة الاتجاهات، من أجل التأكيد على بحثهم عن سبل الوصول إلى تسويةٍ مطلوبةٍ دولياً، وطاولت وجهة رسائلهم بشكل خاص النظام الأسدي، ومكونات المعارضة السياسية والعسكرية، والولايات المتحدة الأميركية وسواها، لكنه يصعب على سوريين كثيرين وسواهم الثقة بنيات النظام الروسي، وبإمكانية سعي ساسته إلى تسويةٍ لا تصب في مصلحة نظام الأسد.
ويتضمن السعي الروسي الجديد العودة إلى الحديث عن “الانتقال السياسي”، وفق القرار الأممي 2254 الذي بذل الساسة الروس جهوداً كبيرة مع أجل إفراغه من محتواه، وراحوا يركّزون على العملية الدستورية، حيث صرفوا عامين في تشكيل اللجنة الدستورية، ولم تحقق اجتماعاتها التي عقدت في جنيف أي تقدّم، بسبب مماطلة ممثلي وفد النظام السوري فيها ومراوغتهم.
ويبدو أن ساسة الكرملين يريدون ملاقاة نظرائهم في البيت الأبيض، الذين قالوا علانية إنه لا يوجد لديهم أي اعتراض على النفوذ الروسي، وتعزيزه في سورية، بل ولا يعارضون بقاء القوات الروسية فيها، واعتراضهم الوحيد هو على الوجود الإيراني فيها، الذي يطالبون بإنهائه وإخراج كل المليشيات التابعة لنظام الملالي الإيراني في سورية. وهذا يلاقي ما تقوم به إسرائيل من ضرباتٍ عسكريةٍ للمواقع الإيرانية والمليشيات في سورية بالتنسيق مع روسيا. وبالتالي، ليس مصادفة أن يطلق، في هذا التوقيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تحذيراً صريحاً موجهاً مباشرة إلى بشار الأسد، يبلغه فيه أن بقاء المليشيات الإيرانية في سورية يعني زوال حكمه في سورية.
ويدرك الساسة الروس أن عليهم تكثيف الجهود من أجل إيجاد حل سياسي في سورية، خصوصا أن “قانون قيصر” يضع مصالحهم عرضةً للعقوبات الأميركية، حيث لن تستفيد شركاتهم المستثمِرة في الغاز السوري وفي استخراج الفوسفات وسواها، بل ستطاولها العقوبات أيضاً. إضافة إلى أن مؤتمر بروكسل للدول المانحة، ربط بشكل جليّ ما بين تمويل إعادة الإعمار في سورية، وإنجاز تسويةٍ سياسيةٍ فيها تستند إلى قرارات الأمم المتحدة. ويدعم هذا الربط ما يذهب إليه قانون قيصر الذي بدأت آثاره الحادّة تظهر بشكل واضح على الاقتصادين، السوري واللبناني.
وترافق السعي الروسي إلى البحث عن تسويةٍ في سورية، مع ظهور أصوات روسية، تعتبر أن الأسد ونظامه باتا حملاً ثقيلاً على روسيا، وراحت تنتقد فساد النظام وتكلّسه، وأنه لم يعد مقبولاً من غالبية الشعب السوري. إضافة إلى اعتبارها أن كل محاولات عرقلة النظام تنفيذ القرار 2254 أو الالتفاف عليه غير كافية لإطالة عمره، وتزامن ذلك مع اتخاذ روسيا خطواتٍ على الأرض، من خلال توسيع الوجود الروسي، عبر انتشار الفيلق الخامس التابع لها في مناطق في محافظتي السويداء ودرعا، على حساب الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وتتمتّع إيران بنفوذ قوي على وحداتها، إضافة إلى ضغط روسي لحماية مجموعات المصالحة التي رعتها في مناطق درعا.
وفي سياق محاولات البحث عن ممكنات التسوية، جرت لقاءات واتصالات عديدة، ما بين المسوؤلين الروس والأميركيين، بدأت بلقاءٍ بين نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، والموفد الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، مع الموفد الأميركي الخاص إلى سورية السفير جيمس جيفري. ثم التقت شخصيات من الخارجية الروسية مع شخصيات من المعارضة السورية وممثلين لمكوناتٍ سورية، وطرحت خلالها الأفكار القديمة نفسها، مثل فكرة تشكيل مجلس عسكري من قوات النظام والفصائل المعارضة، وفكرة تشكيل حكومة تشارك فيه المعارضة، ونواب للرئيس وسوى ذلك.
ويبدو أن منطلق الروس للتسوية لم يتغير، لأنه يقوم على محاولةٍ لإيجاد توافقٍ بين المكونات الأجتماعية والقومية، ويلتقي مع مسوّدة دستور لسورية فيدرالية، سبق وأن طرحوها في أستانة، ثم في سوتشي، ولم يغيّروه في سياق بحثهم المستجد عن حل سياسي للصراع الدائر في سورية، وعليها منذ أكثر من تسع سنوات، لكنه يعبّر عن حاجتهم للبحث عن مخرج من أزمتهم الناجمة عن دعمهم نظام الأسد، الساعي إلى استمرار خوض حربه الدائمة ضد السوريين، الأمر الذي يعكس عدم مقدرتهم على ابتكار ممكناتٍ سياسيةٍ، تنهض على التفاوض والتوافق، من خلال ابتكار مخارج وحلول تتوافق عليها جميع الأطراف.
إذاً، لن تنجح محاولات الروس الجديدة، كونها تتبع من السياقات والأطروحات القديمة نفسها، القائمة على معيار المحاصصة بين المكونات السورية والنظام الفيدرالي وسوى ذلك. وإذا كان الروس جادّين في محاولاتهم فعليهم، قبل كل شيء، وقف دعمهم نظام الأسد، وعدم التركيز على قبض ثمن محاولاتهم. لذلك سيكون واهماً كل من يعتقد أن روسيا يمكنها أن تشكل قوة إنقاذ لسورية وللسوريين، وأنها جادّة في البحث عن مخرج سياسي، وفق القرارات الأممية.