جسر – صحافة
عندما يصل إلى دمشق المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسن، سيقوم بمهمة صارت مألوفة هي التفاوض من أجل عقد اجتماع جديد “فاشل” للجنة الدستورية، واللجنة الدستورية كما هو معلوم بمثابة التذكار الوحيد الباقي من قرار مجلس الأمن 2254. صار مألوفاً أيضاً أن يكون بيدرسن قد مهد لزيارته عبر موسكو وطهران، فهو أجرى محادثات هاتفية مع ميخائيل بوغدانوف وعلي أصغر خاجي، نائب وزير الخارجية الروسي ومساعد وزير الخارجية الإيراني على التوالي.
يمكن وصف مساعي بيدرسن بالسيزيفية، فهو يحاول من جديد رفع صخرة اللجنة الدستورية، ربما مع إشاعة آمال متجددة عن تعاطٍ إيجابي من قبل وفد الأسد، لتعود صخرة الآمال إلى الأسفل كما في كل جولة سابقة. وإذا واتته الشجاعة يرمي باللوم على وفد الأسد، من دون أن يصل به الشطط إلى لوم داعميه، إذ يفترض المنطق البسيط أن مَن أتوا به إلى طاولة المفاوضات قادرون على إجباره على التفاوض الجاد. أثناء اجتماعات الجولة السادسة على سبيل المثال، التقى بيدرسن بعلي أصغر خاجي، وكانت موسكو مواكبة للاجتماعات، وهكذا تبددت المسؤولية عن تعطيل المفاوضات بينهما، وكان رميها على وفد الأسد مَخرجاً لعدم إغضاب أيّ منهما.
من المفروغ منه أن بشار الأسد لا يريد التفاوض مع سوريين، رغم إصراره اللفظي على أن التفاوض ينبغي أن يكون سورياً خالصاً. لكن ما هو أصيل فيه يلاقي التكتيكات الإيرانية أو الروسية، أو كليهما معاً. من موقعه هذا، يبدو بشار كمن لا يريد أن يسجّل لنفسه موقفاً مرناً أمام المجتمع الدولي، من قبيل استقبال بيدرسن بلا “ضغوط” روسية وإيرانية، إذا كان مسموحاً له من قبل الطرفين التحرك ضمن هذا الحد المتدني لاتخاذ القرار. بعبارة أخرى، إذا كان بشار مستفيداً من مظلة الوصيين لتهربه من المفاوضات، ومستفيداً أحياناً من تضارب مصالحهما، فذلك ليس بلا ثمن لهما على حسابه، بل يقلّص إلى حد كبير فرصه في قبض ثمن خاص به لقاء “مرونته” عندما يُكره عليها.
تفصيل صغير، ثبتت تفاهته حتى الآن، مثل اللجنة الدستورية يُظهر كيف أن الوصاية المزدوجة من شأنها تعطيل أية عملية سياسية مهما تدنى أفقها. الاتفاق الروسي-الإيراني في الأهداف العامة غير متوفر في تفاصيل سيطرة الطرفين على الأسد، وسيطرة كل منهما على مناطق أو قطاعات نفوذ. الاتفاق العام لا يمنع المنافسة، وهي قائمة على نحو يختلف عما هو مطلوب دولياً وإقليمياً، بمعنى أنها منافسة تتحاشى التصادم والاشتباك، ولغاية الآن ينهش طرفاها في جثة الأسد، ولا نية “أو ضرورة” لينهش أحد منهما الآخر.
لا جدال في استفادة بشار من الوصاية الروسية-الإيرانية، فأي طرف منهما لن يستطيع التضحية به من دون التنسيق التام مع الآخر، ومن المستبعد إلى حد كبير جداً أن تتطابق مصالحهما وصفقاتهما الخارجية إلى درجة اتفاقهما على التغيير. الغرب عموماً، وعلى رأسه واشنطن، لم يعد يطالب بالتغيير، ولا يبدي أدنى استعداد لدفع ثمن من أجله. الأثمان الموضوعة، علناً أو سراً، تقتصر على تحفيز موسكو أو طهران ضمن صفقات أوسع، وعلى تقديم فتات تطبيع مع الأسد ينقذ سلطته فقط من الشلل الاقتصادي التام.
لا يُعرف مثلاً على نحو مؤكد ما إذا كان التساهل الأمريكي الأخير في عقوبات قيصر ضمن تفاهم مع موسكو، أو من بين رسائل إيجابية إلى طهران لإعادتها إلى مسار فيينا. والخلاف الأمريكي-الإسرائيلي قد يبقى حاضراً مع آثاره العملية الواضحة، فتل أبيب تريد بشار الأسد لروسيا من دون إيران، بينما لا تمانع واشنطن بقاء شقه الإيراني من ضمن ملحقات الاتفاق النووي تاركةً الميدان لتنافس الحليفين، وقد لا تمانع في الوقت نفسه أن يستمر الطيران الإسرائيلي في تقليص مكاسب طهران من واشنطن.
هذه الوضعية مرشّحة للاستمرار ما دام الوضع مضبوطاً بالتوازنات وتقاسم النفوذ الحاليين، ويصعب ضمن هذه المعطيات تصور تطورات دراماتيكية على النحو الذي يتمناه متحمسون للتطبيع مع بشار وإعادة اعتماده دولياً بسرعة. قد يصح القول بأن الوصايتين أديتا مهمتهما بالإبقاء على بشار، وبسحب فرضية تنحيته من الأجندات الدولية، وهذا أقرب منالاً من إعادة الشرعية له، ومن التطبيع المقرون أولاً بإعادة الإعمار.
وإذا كان التطبيع سيمضي بطيئاً ومتدرجاً، وهو الاحتمال الأرجح حالياً، فإن كل خطوة ستتطلب تفاهماً بين موسكو وطهران، على افتراض بقاء بشار بعيداً تماماً عن اتخاذ القرار. هنا ستبدأ الخطوات الصغيرة بالمس بقطاعات النفوذين الروسي والإيراني، وبالمفاضلة بينهما، ما سيفتح الباب على الخلافات التي قد تعرقل المسيرة بأكملها. يصعب، على سبيل المثال، تصورُ تخلي طهران عن أهدافها الاقتصادية بعدما ضخت من المساعدات أرقاماً أعلى بكثير مما أنفقته موسكو على تدخلها العسكري، ويصعب أن تقبل باسترداد ما أنفقته فحسب مع نيلها الشكر والثناء على رحيلها وفق سيناريوهات عربية شديدة التفاؤل.
قد يطالعنا بعد أشهر خبر وصول المبعوث الدولي إلى دمشق لبحث استئناف أعمال اللجنة الدستورية، دائماً بعد فشل الجولات السابقة بسبب تملص وفد الأسد من التفاوض، وقد ينجح بصعوبة في انتزاع موعد أبعد مما يأمل. ثم قد يُنظر إلى الأسد وحليفيه كأساتذة في فن التسويف والمماطلة، وإلى الغرب كمتواطئ في العملية. ذلك كله يعكس الواقع بأمانة، فبشار ضَمِن أقصى طموحاته ببقائه، وما تبقى رهن بإرادة حليفين لن يُنتَزع من أحدهما، ووجودهما معاً بقدر ما يضمن بقاءه سيعقّد طبيعته والتطبيع معه. اضطرار المبعوث الدولي، كل مرة، للاتصال بموسكو وطهران على حدة لا يشرح بديهية غياب القرار المستقل، بل يشرح ما سيكون عليه الحال من تعقيد مع خطوات ليست لتزجية الوقت على غرار اجتماعات اللجنة العتيدة. أما اتصالات بشار الهاتفية برئيس هنا أو ملك هناك فهي قد تؤنس عزلته، العزلة التي تكون أشد وطأة عندما يجتمع بالإيراني أو الروسي.