جسر:متابعات:
من المعروف أنّ فرنسا، خلافاً للدول الأوروبيّة الأخرى، وخصوصاً الدول ذات التراث البروتستانتي، تفصل الدين عن الدولة فصلاً تامّا. وقد نظّم قانون 9 كانون الأوّل 1905 العلاقة بين الطرفين على أسسٍ واضحة وحصيفة ولا علاقة لها بالأوهام السائدة في كثيرٍ من الأوساط، الإسلاميّة وغير الإسلاميّة. ما هو مضمون هذا القانون؟
جاء في المادّة الأولى.: ” تكفل الجُمهوريّة حرّيّة الضمير، وتضمن حرّيّة ممارسة الشعائر الدينيّة “.
وتؤكّد المادّة الثانية مبدأ حياد الدولة إزاء جميع الأديان فهي ” لا تعترف بأيّ دين”، ولا تموّل أيّ دين، ولا تًسدّد أجوراً لرجال الدين.
ويُحدّد القانون في الموادّ التالية مآل الممتلكات والمباني الدينيّة، ثمّ قواعد تنظيم الجمعيّات الأهليّة المُخوّلة بإقامة الشعائر الدينيّة، وأهمّها استقلال هذه الجمعيّات، أي منع الدولة من التدخّل في شؤونها الداخليّة (المادّة الرابعة)، ويُعاقب الذين يُعرقلون إقامة الشعائر الدينيّة (المادّة 32).
ما لا يحقّ للمؤسّسات الدينيّة:
تُمنع الاجتماعات السياسيّة في المباني الدينيّة (المادّة 26)، تُمنع الرموز الدينيّة في المباني الرسميّة وفي المؤسّسات العامّة كافّةً باستثناء الأماكن المُخصّصة للعبادة والمدافن والأضرحة والمتاحف والمعارض (المادّة 28)،. يُعاقب المسؤولون عن إقامة الشعائر الدينيّة إذا أساؤوا في خطبهم أو قراءاتهم أو ملصقاتهم أو المنشورات التي يوزّعونها في الأماكن المُخصّصة للعبادة إلى أيّ مواطن يُمارس وظيفة رسميّة (المادّة 34)، ويُعاقب أيّ مسؤول عن إقامة الشعائر الدينيّة إذا دعا في أماكن العبادة إلى التمرّد على القوانين أو الّب بعض المواطنين على مواطنين آخرين (المادّة 35).
ليس في هذا القانون إذاً أيّ مبدأ يمنع المسلمين الفرنسيّين من ممارسة شعائر دبنهم بحريّة، ولكنّه يمنعهم، كما يمنع المؤمنين بالديانات الأخرى، من خلط الدين بالسياسة، ومن انتهاك قوانين الجُمهوريّة باسم دينهمز ليس القانون في حدّ ذاته سبب العلاقة المُلتبسة بين الدولة الفرنسيّة والمُسلمين المُتديّنين (ولا أعني الإسلاميّين بمُختلف نزعاتهم)، ولم أسمع حتّى الآن أنّ أحداً منهم طالب بتعديله. المُطالبون بالتعديل هم الذين يُريدون أن تتخلّى الدولة عن حيادها الديني وأن تتدخّل في شؤون الدين الإسلامي، – بعضهم يُطالب بذلك عن باطل بدافع العنصريّة ورهاب الإسلام ويستصدر من الجمعيّة الوطنيّة قوانين “علمانيّة” جديدة، وبعضهم عن حقّ.
هؤلاء يرون ضرورة استقلال المسلمين عن الدول التي تستتبعهم ماليّاً (وسياسيّاً) مثل الجزائر والمغرب والسعوديّة وإيران ولبيبا في أيّام القذّفي، وكذلك عن جماعات الإسلام السياسي، وهم غير قادرين عليه إذا لم تتوفّر لهم مؤسّسات محلّية تُعنى بالدراسات الشرعيّة وتأهيل الأئمّة وبناء المساجد إلخ بصورة تضمن لهم ممارسة شعائر دينهم بكرامة باعتباره حاجة روحيّة وليس عقيدة سياسيّة. ولكنْ كيف تتوفّر لهم مثل هذه المؤسّسات في أوضاعهم الحياتيّة الصعبة إذا لم تُساعدهم الدولة – وقانون 1905 يمنعها في مادّته الثانية من التدخّل في شؤونهم ؟ مضت سنواتٌ طويلة على طرح هذه المسألة ولم تسعَ الحكومات المُتعاقبة منذ سبعينات القرن الماضي إلى مُعالجتها بحكمة، مع أنّ قانون 1905 نفسه يتضمّن مادّة تستثني بعض الحالات ويُمكن تفسيرها على نحوٍ يسمح للدولة ببعض “الحياد الإيجابي” في شأن تمويل المؤسّسات الدينيّة الإسلاميّة – كما أُهملت غيتويات الضواحي حيث تتردّى الأوضاع المعيشيّة يوماً بعد يوم وحيث صار الإسلام ديناً احتجاجياً يسهل للدعوات الجهاديّة اختراقه.
لذلك كلّه ما زلت أعتقد، على الرغم من الرياح المجنونة التي تعصف بنا في هذه الأيّام، أنّ العلمانيّة الفرنسيّة التي لا تعني في مفهومها القانوني إلّا فصل الدين عن الدولة، وفيه مصلحةٌ للطرفين، ليست “الدين العلماني” الذي يتردّد على ألسنة درمانان وبلانكيه وشيابا وغيرهم من وزراء ماكرون، وتُبشّر به بعدوانيّة وغباء وسائل الإعلام الفرنسيّة، وليست بأيّ حال شارلي إيبدو !
فاروق مردم بيك