جسر: متابعات:
لفتُّ الأنظار، قبل نيف وعامين، إلى واقعة تفقأ العين، هي أن في سورية كتلتين تضم إحداهما النظام وروسيا وإيران، والأخرى جماعة الاتحاد الوطني (الكردي) وواشنطن، وبينهما فراغ قاتل، فشل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ومؤسسات المعارضة الأخرى، في ملئه طوال أعوام الثورة. وبينما تخوض موسكو وطهران الحرب نيابة عن حطام الأسدية الذي أوشك، مرات عديدة، على السقوط، تحتل قوات أميركية وبعض الأوروبية شرق الفرات، بحجة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتستخدم وجودها هناك، للضغط في جميع الاتجاهات، وتعطيل أي حل روسي منفرد.
أما المشكلة التي وقفت عندها، في حينه، فهي عدم وجود كيان مقابل بينهما، يمثل الشعب السوري، ويحظى بدعم عربي أو دولي، وبالاعتراف باستقلاليته ممثلا للسوريين. زاد خطر هذا الفراغ، لأسبابٍ منها تعاظم انفكاك العسكر عن “الائتلاف”، وتشكيلهم حقلا سياسيا منفصلا عنه، أكل من رصيده بدل أن يعزّزه، وتلاشي علاقاته العربية والإقليمية والدولية، وانقطاع صلاته مع ما كان كتلةً دوليةً تبنت مواقف قريبة من مواقفه أو متطابقة معها، بعد فترةٍ كان خلالها طرفا رسميا اعترفت معظم دول العالم به، واعتبره قرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 مايو/أيار عام 2013، برقم 262/ 67 ممثلا شرعيا للشعب السوري. إلا أن “الائتلاف” أحجم عن الإفادة من السانحة، عندما تقرّرت إقامة أربع مناطق خفض تصعيد في الفراغ بين المنطقتين الروسية والأميركية، وأتيحت إمكانية تدخله لاقامة إدارات ديمقراطية منتخبة في كل منطقة منها، تمهيدا لتشكيل إدارة مشتركة تمثلها تجاه ضامني وقف إطلاق نار تقرّر لستة أشهر قابلة للتجديد، ولتنظيم علاقات فصائلها المسلحة أو توحيدها وإخضاعها لقيادة مشتركة تتمثل بدورها في “الائتلاف”، وتتبنى موقفه من الحل السياسي والقرارات الدولية. آنذاك، وضعتُ ورقة بيّنتُ فيها كيفية تحقيق هذه النقلة، على محدوديتها كفرصة، وضرورة العمل لبناء كيان يملأ الفراغ، ولكن “الائتلاف” بقي من دون حراك، كعادته، ثم رفض الفكرة بحجّة أن مناطق خفض التوتر يُراد بها تقسيم سورية، متجاهلا أن واحدة منها كانت في أقصى جنوب سورية، وثانية حول دمشق، وثالثة في ريف حمص الشمالي، ورابعة في إدلب وريف حماة الشمالي وحلب والساحل، وإن بديل مبادرته التي يجب أن تحصنها ضد السقوط هو عودة النظام إليها، بعد انقضاء فترة الأشهر الستة، وهو ما حدث بالفعل.
بعد إفلات الفرصة التي كان احتمال نجاحها خمسين بالمائة، صدر القرار 2254، وشكلت هيئة تفاوض تضم المنصّات و”الائتلاف”. كانت تلك خطوة على طريق سحب الاعتراف الدولي بشرعية “الائتلاف” ممثلا للسوريين، لو أريد بها تعزيزه لضمّت المنصات إليه، وانضموا إلى الهيئة أعضاء فيه، هم ومن تم ضمهم أيضا من عسكريين ضمت روسيا بعضهم إلى هيئة تفاوض بديلة، عملت على مسارٍ منفصل عن مسار جنيف، بحجة مناقشة وحلّ مسائل محض عسكرية، لا علاقة لهيئة التفاوض و”الائتلاف” بها.
هذا التطوّر الذي أخضع مصير الثورة لأحد طرفي الامتلاء السياسي، الروسي/ الإيراني/ الأسدي، وأعد الساحة لخطىً لن يكون لـ”الائتلاف” دور مقرّر فيها. لذلك، ما أن تم اتفاق سوتشي عام 2018 بشأن منطقة إدلب، حتى تعلق به كما يتعلق غريقٌ بقشة، وتبنى مواقف تركيا: ضامن منطقة إدلب التي غدت جزءا من أمنها القومي، ستتكفل بحمايته، لما في ضياعه من إضرار بها كدولة اقليمية عظمى.
هل يستند هذا الاعتقاد إلى تحالف يلزم الجانبين بإخضاع مصالح ومصير كل منهما للآخر؟ وهل يقوم على شراكةٍ بين طرفين، يخوض أحدهما معركة ليست سورية غير بند واحد فيها؟ وما دور ممثل السوريين في ما يرسم لهم من سياسات؟ هذه لحظة مفصلية، تطرح السؤال التالي: ماذا يبقى من الثورة إن قبلت تركيا خطة روسيا لفصلها عنها، وأعادت العلاقات بينها وبين الأسدية؟
العربي الجديد 7 أيلول/سبتمبر 2019