جسر – صحافة
وظهرت الشبل، التي عادت للإطلالات الإعلامية، العام الماضي، بعد انقطاع دام عشر سنوات، مساء الأحد، في شاشة “بي بي سي عربية” عبر برنامج “بلا قيود” مع الإعلامي المغربي نور الدين زورقي الذي كان ينشر منذ أيام عبر صفحته الشخصية في “فايسبوك” صوراً من العاصمة دمشق برفقة شخصيات مثل زميلته الإعلامية في القناة نفسها دينا وقاف، المقربة من النظام السوري، وهي ابنة ماريا ديب، المذيعة الأشهر في تلفزيون النظام طوال عقود.
وكانت الشبل كسبت شهرة واسعة عندما كانت مذيعة في قناة “الجزيرة” قبل أن تستقيل من المحطة العام 2011، لتقف إلى جانب النظام السوري وتقود الجهود الإعلامية التي حاولت تزييف حقيقة الثورة السورية، وأدرج اسمها في لوائح العقوبات الاقتصادية الأميركية في وقت سابق من العام 2020. وخلال عملها مستشارة إعلامية للأسد، بدأت الشبل رويداً رويداً في بسط نفوذها وسلطتها في القصر الرئاسي حتى لقّبت بـ”السيدة الثانية” فيما تحظى بنفوذ واسع في وزارة الإعلام تحديداً، تجلى في تعيينات مختلفة في الوزارة خلال السنوات الماضية.
ولم يكن من الغريب على الإطلاق رؤية التحريض على الغرب في حديث الشبل، ليس لأنه يصدر من قبل شخصية أسدية، بقدر ما أنه ينطلق عبر شاشة “بي بي سي عربية” التي لا تبدو مهمومة بالدفاع عن القيم الديموقراطية في الشرق الأوسط ولا تروج لها، سواء في موقعها الإلكتروني أو عبر بثها التلفزيوني، بقدر ما تبث خطاباً معاكساً، ما يثير الجدل من حين إلى آخر في الإعلام البريطاني مع مطالبات بإجراء تحقيقات مستقلة من قبل البرلمان في تلك التغطية التي تمولها أموال دافعي الضرائب في المملكة المتحدة.
واللافت في اللقاء ككل، كان إعطاء القناة البريطانية للضيفة، مساحة واسعة للحديث عن الغزو الروسي لأوكرانيا، من منطلق “حق وواجب روسيا في الدافع عن نفسها وشعبها وأمنها القومي”، من دون تحدّيها بِذِكر انتهاكات حقوق الإنسان وفظاعة الحرب التي قامت بها موسكو في أوكرانيا وفي سوريا على حد سواء من قبل المحاور الذي اكتفى بلعب دور ثانوي في اللقاء، لتبدو المقابلة في المجمل وكأنها تجري على شاشة “الإخبارية السورية” وليس على قناة عالمية تقدم نفسها على أنها منبر للحيادية وقيم المهنية والمعايير الإعلامية.
ومهما كان ذلك مستفزاً، فإنه يشكل فقط حبة الكرز فوق كعكة الكوارث التي تقدمها تغطية القناة لقضايا مختلفة في المنطقة العربية، من السياسة مروراً بالثقافة، وصولاً إلى مواضيع أكثر جدلية كالقضايا الحقوقية والحريات وحقوق الإنسان. وظهرت المشكلة بشكل واضح عند تقديم تغطية ترقى إلى مستوى خطاب الكراهية في مواضيع تتعلق بالحريات الجندرية والمثلية الجنسية في العالم العربي، عندما نشرت صحف بريطانية تقارير الصيف الماضي تتحدث عن انتهاك لوائح البث وتقديم مواد غير قانونية في الخدمة العربية التابعة لـ”بي بي سي”، يتم إنتاجها في لندن. علماً أن ميثاق “بي بي سي” ينص على أن خدماتها الإخبارية الأجنبية يجب أن “تعكس المملكة المتحدة وثقافتها وقيمها للعالم”.
وبعكس تنظير “بي بي سي” الدائم عن قيم الحيادية في الإعلام من ناحية عدم تبني آراء خصوصاً من قبل الموظفين فيها، مهما كانت تلك القيمة قديمة ولا تناسب الإعلام المعاصر في زمن تعاني فيه الديموقراطيات من استهداف مباشر، فإن “بي بي سي عربية” تقدم انحيازاتها السياسية لصالح الأنظمة الشمولية في المنطقة من حين إلى آخر تحت مسمى الحيادية، وتلك هي المشكلة الأكبر لأن الخدمات الدعائية التابعة للأنظمة الدكتاتورية أو تلك التابعة لمحور الممانعة على سبيل المثال، تقدم نفسها بلا رتوش تجميلية وبلا عبارات طنانة ودروس في معنى الإعلام وما يجب أن يكون عليه الصحافيون.
ولا يعتبر ذلك مبالغة في التوصيف. ففي الشأن السوري تحديداً برزت طوال العقد الماضي انتقادات في بريطانيا نفسها لتلك التغطية غير الموضوعية، وبلغت ذروتها في أيار/مايو 2016، عقب استقالة الإعلامية ديما عز الدين احتجاجاً على نشر القناة أنباء ومقاطع فيديو تظهر القصف الذي تتعرض له حلب من قبل قوات النظام، على أنه قصف من فصائل المعارضة على أحياء يسيطر عليها النظام. كما طالب سوريون، البرلمان ووزارة الخارجية البريطانيين حينها، بإجراء تحقيق شفاف حول تراجع مهنية “بي بي سي”، بعد السقطات المهنية التي وقعت فيها قناتها العربية في حلب. فبينما قامت “بي بي سي الإنجليزية” بتقديم تقارير عن قصف المدنيين من قبل الحكومة والطائرات الحربية الروسية، فإن “بي بي سي العربية”، غيرت العناوين وذكرت فيها أن المعارضة هي التي كانت تقصف، مستخدمة صوراً من مناطق المعارضة على أنها صور في مناطق سيطرة النظام.
وفي العام 2017 وجهت منظمة “ريثينك ريبلد سوياستي” البريطانية، انتقادات حادة لـ”بي بي سي”، واتهمتها بالانحياز في تغطيتها للحرب في سوريا إلى صالح النظام السوري، حسب دراسة حللت فيها أكثر من 300 مادة إعلامية نشرتها الشبكة حول سوريا. لكن تلك الانتقادات كانت مخصصة للخدمة الإنجليزية التي كانت تغطيتها للأحداث لا تعكس حجم الجرائم المرتكبة من قبل نظام الأسد وحلفائه، ضد المدنيين، بالمقارنة مع الجرائم الأخرى المرتكبة من أطراف ثانية داخل سوريا، كما كانت هناك شكوك في أن “بي بي سي” تبتعد عن تحديد هوية الأسد أو روسيا كمرتكبين للاعتداءات والجرائم في عناوين المادة الإخبارية، بينما يتم تحديد هذه الهوية بشكل واضح عندما تكون “داعش” أو جماعات معارضة أخرى هي المسؤولة عن الجرائم المذكورة في التقارير.
ويرتبط ذلك بشكل أو بآخر بالخدمة العربية التي احتفظت بمراسلين من العاصمة دمشق، يشكلون مصدراً لمعلومات الهيئة البريطانية عن الحدث السوري ككل، علماً أن الهيئة البريطانية سحبت كافة مراسليها الأجانب من البلاد، وتعتمد نسختها الانجليزية على معلومات الهيئة العربية وتقارير وكالة أخبار النظام الرسمية “سانا”، كمصدر أول للمعلومات، فيما تعتبر الأخبار المنشورة من قبل ناشطي المعارضة عبر السوشيال ميديا “فاقدة للمصداقية”، والتقارير القليلة التي قدمتها القناة من الداخل السوري لجمهورها العالمي كانت مقيدة بشروط النظام الذي يفرضها على الإعلام العالمي، وغالباً ما تظهر البلاد في حالة “تمرد” على “الحكومة الشرعية”.
على أن كثيراً من التصرفات التي تحصل في “بي بي سي عربية” ومن قبل موظفيها ومراسليها في المنطقة، كفيلة بإحداث تحقيقات داخلية واستقالات ونقاشات معمقة لو حصلت نفسها من قبل الموظفين والمراسلين في الخدمة الإنجليزية على سبيل المثال. وتبرز هنا صور مراسل “بي بي سي عربية ” في دمشق غسان عبود، مع ضباط في جيش النظام احتفالاً بالانتصارات الميدانية! إضافة إلى التعليقات التي يقدمها مذيعو القناة مثل أحمد فاخوري في “بي بي سي تريندنغ” وغيرهم، ما يطرح أسئلة حول الشفافية في الخدمة العربية ومدى معرفة الإدارات في لندن بما يجري في تلك الخدمة من مشاكل تستحق التوقف عندها.
المصدر: موقع المدن (وليد بركسية)