عن انقراض طبقة النشطاء السوريين

عبد الناصر العايد

(إلى مازن الحمّادة ورفاقه)

تشتمل الثورة السورية، مثل كل التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى، على عدد كبير من الظواهر والإشكاليات التي لا يمكن لأشد المتابعين قرباً أن يلاحظها ويسجلها، ومنها قضية اختفاء طبقة النشطاء السياسيين السوريين. كانت هذه الطبقة، في العام 2011، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، ثم تلاشت بسرعة، مفسحة الطريق أمام أشكال متنوعة من الفاعلين الذين انحدروا بالقضية إلى درك الصراع الطائفي. ولم يخطر لمعظمنا أن يتساءل: أين ذهب المئات من هؤلاء، ممن عرفناهم في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، كمحركات للعمل الثوري وبوصلة لاتجاهه الوطني؟ وأين اختفى آلاف آخرون عُرفوا في نطاقات محليّة كمؤثرين أساسيين في صنع وصياغة الثورة السورية كما عُرفت في البدايات، أي كحراك وطني ديموقراطي؟

لم يُطرح السؤال، ولم نطرحه على أنفسنا، حتى جاءت صحافية غربية، هي الفرنسية غارانس لوكين، لتذكّر بها من خلال إثارة لغز اختفاء الناشط السوري المعروف مازن الحمّادة، ومساره المأسوي الذي بدأ في مدينة دير الزور، شرقي البلاد، ومرّ بكل معتقلات القتل تحت التعذيب في دمشق، ثم تنقل من منفى إلى آخر، ليقابل ممثلي معظم الهيئات الدولية والأممية المعنية بقضية شعبه، فلم يحصل سوى على وعود فارغة وعبارات تضامن جوفاء، وما لا يُحصى من الخيبات. وهو المسار ذاته الذي اجتازه الشطر الأعظم من أقرانه، المتكدسين تباعاً في أوروبا، لتذوي أرواحهم التي كانت متمردة ذات يوم، ولتُمحى معالم وجوههم التي كانت وجهاً لأعظم حراك اجتماعي عرفته بلادهم. لكن بينما استولى الإحباط على معظمهم، وأقعده، اختار الحمّادة أن يذهب بالإحباط إلى منتهاه، وبطبعه الشخصي المقاتل، اختار أن يحطم نفسه مثل النسور، على الصخور التي تسد الأفق أمامه وأمام أبناء جيله.

ليس من المؤكد تماماً أن مازن قد عاد إلى سوريا لتعتقله مخابرات الأسد مجدداً وتغيّبه، مع أن الروايات ترجّح ذلك. وإذا كان هذا ما حصل، فإنه قد أراد بذلك أن يوجه إلى أقرانه صفعة اليقظة، عساهم يتداركون هزيمتهم. فهم ما عادوا نشطاء، بمعنى الهيئة أو المجموعات الواحدة المؤثرة، بل صار كلّ منهم عالماً لوحده، يرفض الآخرين وينابذهم، يكيل الاتهامات لزملائه ويلقي عليهم اللوم، شأنهم شأن الجماعات التي تخسر معركة ما، فيصبح كل فرد فيها عدو الآخر اللدود، وليكفُر في النهاية بقضيته، أو يتحول إلى خامل لا يندّ عنه سوى صوت الشكوى والتذمر.

بعض أقران مازن، اختار أن يقعد في الأوهام؛ مثل وهم تحقيق الذات عبر العمل في هذه الوظيفة أو تلك، والتي أتاحها له غالباً بروزه السابق وشهرته. أو وهم الماضي المجيد وإنجازاته، أو وهم التآمر عليه وعلى أمثاله، أو حتى وهم الشلل الكامل وعدم القدرة على فعل شيء. وحده مازن، الذي كانت عظام يديه وقدميه بارزة لكثرة ما حزّتها أصفاد الجلاد، ويعاني الرضوض في أنحاء جسده، وفي كل طيّة من طيّات روحه، كان يقاوم، ولا يتوانى عن الانخراط في أي حدث أو مناسبة تتعلق ببلاده. وعندما تثاقل الرفاق وصمتوا، قرر أن يصنع الحدث الأخير، بحطام جسده وروحه، وما الكتاب الذي صدر عنه مؤخراً، سوى صدى ارتطامه “الانتحاري” بجلاده.

لقد فشلت ثورة النشطاء السوريين لأنهم خاضوا معركة غير متكافئة. خاضوها ضد مصالح وحسابات جهات أقوى منهم بكثير، استطاعت تدجين بعضهم وترحيل بعضهم الآخر. وكان على جماعة منهم أيضاً أن تتعرض للطعنات الغادرة في الظهر، من قوى الاستبداد الكامنة في عمق مجتمعاتهم، ووجدت في الفتحة التي أحدثها النشطاء في جدار الرعب، فرصتها للانفلات والتهام الأخضر واليابس. لكن نظام الأسد، الأكثر وحشية وتضرراً بين أطراف المعادلة الجائرة من هذه الفئة، أراد ما هو أبعد من القتل والتغييب. أراد أن تُنسى هذه الفئة الفريدة، وأن تُلغى من الواقع التاريخ، كي لا تُلهم سواها أو تتكرر. وهو ما التقطته الكاتبة الفرنسية، فعنونت كتابها بعبارة “إنسَ اسمك” التي كان الجلادون يرددونها عليه في جلسات تعذيب لا يمكن تخيل وحشيتها، مع أن آثارها كانت ترتسم على جسده المتهالك.

لا يستطيع النشطاء الذين صار معظمهم اليوم خارج حلبة الصراع، أن يستأنفوا معركتهم ضد نظام الأسد، من المعتقلات والقبور والمنافي، أو هكذا يعتقدون. ووفق تصورهم هذا، سيبقى ما فعله زميلهم مازن، حدثاً رمزياً لا أكثر. وهم يتجاهلون عمداً، الدرس البليغ الذي قدمه لهم، بوعي أو من دون وعي، وهو أن في الإمكان فعل شيء في كافة الظروف وبأوهن القوى والإمكانات، حتى لو فقط بجسد حطّمه التعذيب وبروح خنقتها الخيبات. وبأن “الناشط” من حيث هو مناضل في سبيل قضية، لا يسعه ألا أن يدمج حياته كلياً بتلك القضية، ويقرن مصيره الخاص بها، وأن يكون مؤمناً بانتصارها حتى الرمق الأخير.

ستعود طبقة النشطاء يوماً. لا شك في ذلك. فالقضية السورية لم تحلّ بعد، وما زالت وستبقى واحدة من أعدل القضايا في عالمنا المعاصر، وقادرة على توليد المناضلين وقادة الجيل ممن لم تكسرهم الهزيمة. لكن الفئة التي تتوارى الآن، بخبراتها وقيمها وتكوينها الفريد، ما زالت مسؤولة. وما زال نشطاء العام 2011 وما بعده، قادرين على فعل المزيد في حياة مجتمعهم الذي كتبوا الفصل الأول في مسار تحوله الكبير.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا