عبد الناصر العايد
تشيع بين السوريين اليوم مقولات تفيد بأن مرحلة الثورة السورية قد “رفعت أناساً وحطت من قدر آخرين”، في اشارة إلى المكانة الاجتماعية، التي تغير “نظامها” في عموم المجتمعات السورية، سواء التي تسيطر عليها المعارضات المختلفة، أو التي تقع تحت نفوذ نظام الأسد.
ويبدو التفكير بهذا التفصيل نوعاً من الترف في ظل صراع الأفراد والمجتمعات السورية من أجل البقاء لا المكانة، وهذا صحيح إلى حد ما، إذا استثنينا احتمال أن تدفع القوى الفاعلة في المدى المنظور إلى تفاوض سوري-سوري، حيث يقوم جزء كبير من التمثيل أو التفويض وفق “المكانة الاجتماعية”، لا على أسس سياسية، مثل الانتخابات، وبالتالي تأسيس حقبة جديدة من الحياة السورية من دون حلّ المعضلة الأساسية المتمثلة في فتح المجال السياسي وتداول السلطة.
إن أول ما يخطر في بالنا عند الحديث عن نظام المكانة في المجتمع السوري، هو التراتبية الاقتصادية، أي الفئات التي تتمتع بقدرة اقتصادية عالية. وقد انهار التصنيف السابق للثورة، المعتمد على رأس المال العقاري أو التجاري أو الصناعي، فهي جميعاً تعطلت في مرحلة الحرب وتدنت أو جمّدت، ولم يظهر نظام اقتصادي جديد يمكن بناء نظام مكانة على هديه. فالفوضى هي عنوان المرحلة اقتصادياً شأن المجالات الأخرى، لكن مع ذلك برز من سديم تلك الفوضى وركام الخراب، ولدى جميع الأطراف، أثرياء الحرب وتجارها، الذين شكلوا ملامح فئة جديدة، تستمد قوتها من مبادرتها الذاتية، أو من قربها من هذه السلطات او تلك، أو حتى بالاستفادة من ظروف ومصادفات لم تكن بالحسبان، استغلها شخص طموح بمهارة. هنا يخطر في البال، على سبيل المثال، ما صار يدعى برجال الأعمال الجدد في مناطق سيطرة النظام، مثل القاطرجي وأبو علي خضر، اللذين لم يكونا يُذكران بين فئة التجار قبل العام 2011، ويتربعان الآن على قمة الهرم الاقتصادي، مع العشرات من أشباههم الأقل ثروة، لكن لديهم المسار ذاته تقريباً. وينسحب الأمر على التاجر المدعو “أبو دلو”، في مناطق سيطرة “قسد”، والذي استفاد من تجارة النفط، ويشاركه المسار العشرات من الأثرياء الجدد من منطقة القبائل العربية في شرق سوريا، ممن تصادف وجود حقول آبار النفط في مناطقهم وبادروا إلى استثمار قربهم منها بالتشارك مع قادة “قسد” أو “داعش” قبل ذلك. كما يخطر في البال مثال “أبو علي سجو” الذي سيطرت عائلته على معبر باب السلامة مع تركيا في وقت باكر، وهيمن لاحقاً على معظم عمليات التبادل التجاري عبر ذلك المعبر الحيوي.
لقد تضخمت ثروات هؤلاء الأشخاص في بيئة تنزلق يومياً أسفل خط الفقر، مما مكنهم من الهيمنة على فئات اجتماعية واسعة، سواء من خلال التشغيل لديه، أو تقديم الأعطيات الصغيرة، أو من خلال الرعاية والحماية التي يمكنه أن يوفرها بفضل نفوذه لدى قوى الأمر الواقع المختلفة.
أما العامل الثاني في تحديد المكانة في سوريا فهو المرتبط بالعامل الأمني، والذي يتربع عليه كبار القادة العسكريين وضباط المخابرات في جيش النظام، وأمراء وقادة المليشيات المسلحة المنتشرة في كل مكان من الأرض السورية، بما فيها المليشيات الأجنبية. وقيمة هؤلاء تأتي من تحكمهم بمصائر من يقعون تحت قبضتهم، وقدرتهم على حمايتهم او إلحاق الأذى بهم، وقد صنفناهم في المرتبة التالية لأن قدرتهم مقيدة بالأرض والمجال الذي يعملون فيه أو يهيمنون عليه، بينما يستطيع صاحب المكانة القائمة على السطوة المالية أن يكون عابراً للتقسيمات وحدود النفوذ المعروفة بمناطق السيطرة. وقد باتت أسماء هؤلاء أشهر من أن تعرّف، من قادة الأجهزة الأمنية لدى النظام، إلى قادة الفصائل المعارضة، وصولاً إلى زعماء المليشيات الأجنبية.
خلف هاتين الفئتين يقف عدد من “التقنيين” أو البيروقراطيين، الذين لا غنى عنهم لتسيير الشؤون الاقتصادية والعسكرية والأمنية، بل إنهم من يقوم بعبء العمل ويمسك بمفاتيحه الفعلية. وهؤلاء لديهم أيضاً مكانة يعتدّ بها لما يحوزونه من نفوذ، فالمدراء الإداريون وقادة الصف الثاني والمحاسبون وخزنة المال ومحققو أجهزة المخابرات وخبراء الأسلحة النوعيون، كل هؤلاء لهم مكانة تنبع من اعتماد القوى الاقتصادية والعسكرية عليهم في تسيير شؤونها. وتضاف إلى فئة التقنيين هؤلاء، فئات بيروقراطية أخرى برزت في الميادين المستحدثة، مثل منظمات الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الإعلامية او حتى رجال الدين وبعض رواد العمل السياسي المعارض الذين برزوا عبر تأدية بعض المهمات السياسية لصالح أطراف إقليمية أو دولية، ولهذه الفئة مكانة معترف بها اجتماعياً على الرغم من هشاشتها.
ولدينا في آخر سلّم المكانة حالياً، حاملو صفة “الشرف الاجتماعي”، وهم عملياً معظم أولئك الذين يتمتعون بمكانة اجتماعية موروثة، لكنهم لا ينعمون اليوم بالقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية أو حتى القدرات البيروقراطية، التي تؤهلهم للمنافسة، وميزة أصحاب هذه الفئة هي النسب والقِدَم في المكانة، السمتان اللتان يعجز عن اختراقهما أصحاب الرتب الجديدة.
إن هذا التغيير في نظام المكانة الاجتماعية ليس الأول في سوريا خلال القرن الماضي، فالتغيير الأول حدث عندما انهار نظام الأعيان العثماني مطلع القرن العشرين، بعدما سقطت السلطنة العثمانية، وكان ذلك النظام حينها مُقرّاً بالقانون، يُحدد تبعاً للقدرة المالية أو النبوغ في المجالات البيروقراطية أو العسكرية أو الدينية أو الزعامة العشائرية، ويحمل ذوو المكانة ألقاباً محددة، ويرتدون شارات معروفة، ولهم حقوق معترف بها رسمياً وجماهيرياً. وقد حلّ محل نظام الأعيان، في مرحلة الانتداب الفرنسي، نظام جديد حداثي ذو طابع برجوازي، لبِث أقل من نصف قرن، ثم انقلبت عليه البيروقراطية العسكرية، ليحل قادة الانقلابات المتتالية من الضباط وحواشيهم محل العائلات البرجوازية والاقطاعية والعشائرية الكبيرة. ثم جاءت حقبة حافظ الأسد التي حاولت تكريس وجاهات اجتماعية جديدة كلياً، في مزيج غير متجانس من العسكرة والأمن والطائفية والعشائرية، لا يجمعه سوى وجود الأسد وعائلته في مركز النظام، أو في نقطة توزيع الرتب الاجتماعية، ووفق معايير شبه معلنة على رأسها الولاء والمنبت الطبقي الذي ينبغي أن يكون متواضعاً، والخلفية الطائفية حيث أن لكل طائفة نسبة محسوبة من الرتب، وأخيراً الكفاءة المشروطة بمجمل الشروط السابقة، ولعل أبرز سمات نظام المكانة الذي أرساه حافظ الأسد هو إمكانية “التجريد” من المكانة بسهولة شديدة.
بالعودة إلى منطلق النقاش، فإن باعث تفحص نظام المكانة الآن هو ما نعتقده من أن حل القضية السورية سيكون في النهاية بالتفاوض بين السوريين انفسهم، بمعنى التفاوض السياسي بين فاعلين وقوى سياسية. لكن، بالنظر إلى توجهات القوى المسيطرة والمتحكمة بشكل وطبيعة هذا التفاوض، وعلى رأسها نظام الأسد الذي تفزعه أي نزعة إلى السياسة داخل المجتمع السوري، فإننا نعتقد أنها ستوكل مهمة تنظيم عملية خروج سوريا من أزمتها إلى مجموعة منتقاة من شاغلي نظام “المكانة الاجتماعية” آنف الذكر. وهو خطأ جسيم، بالنظر إلى شاغلي مراتب ذلك النظام وطريقة حصولهم على رتبهم الاجتماعية، من جهة، وإلى كون المعالجة المسؤولة والمستدامة لا يمكن أن تجري إلا على قواعد سياسية، من جهة أخرى، نقطة انطلاقها الانتخابات العامة، والتي ستتأثر أيضاً بنظام المكانة الاجتماعية، لكنها على الأقل لن تكرسه كنظام شامل.
المصدر: المدن