جسر: صحافة:
جمع لقاء ودّي، سياسيين سويديين مخضرمين، من الحزب الديموقراطي الاجتماعي، وعشرات اللاجئين السوريين الشبان في أوروبا، وكانت الغاية من الحدث عرض ومناقشة النموذج السياسي السويدي. ولَكَم أدهشنا كسوريين أن الخبيرين السويديين رسما خطاً مستقيماً، يمثل حياة المرء، من الصفر إلى نهاية حياته، ووضعا علامة على سن العشرين، ثم الخامسة والستين. ثم أخبرانا أن عمل “الدولة” والحياة السياسية في بلادهما، تتمحور حول هذا الخط، حيث تتحمل الدولة مسؤولية رعاية الفرد، من المهد إلى اللحد، آخذة بعين الاعتبار احتياجاته الدقيقة في كل مرحلة. فمن الولادة حتى العشرين سيتلقى التعليم والرعاية الصحية والتسلية وغيرها من المتطلبات الإنسانية، مجاناً. ومن العشرين حتى الخامسة والستين سيعمل، وسيقتطع جانباً من دخله لدعم الأجيال اللاحقة في سن الطفولة، فيما سيُدّخر جانب آخر من ذلك الدخل على نحو مشترك لتأمين تقاعد وشيخوخة آمنة ومريحة. أما مهمة الدولة فهي السهر على تفقد حالة كل نقطة من نقاط خط الحياة المنبسط ذاك، والتأكد من الاستجابة المثلى للاحتياجات وتوفر الموارد الكافية لتغطية المقتضيات. وقبل ذلك وخلاله وبعده، يجري تبادل وتداول السلطة، بين من يقدمون أفضل المقترحات وأعلى الكفاءة لرعاية وتطوير الخدمة العامة، بطريقة سلمية وديموقراطية.
مضى الخبيران السويدان في شرحهما، مغرقَين في التفاصيل: نحن نوفر الموارد لكذا من ضرائب الدخل، وللخدمات الفلانية من ضريبة القيمة المضافة، نسبة من مواردنا الطبيعية نستخدمها هنا، وعائداتنا الاستثمارية هناك. ليُعلنا في النهاية أن بلادهما كانت تصنف قبل قرن من الزمان أفقر دولة في أوروبا، وتبوأت سنة 1970 المركز الرابع كأغنى دولة في العالم، بفضل ذلك النظام المنضبط والإنساني.
دهشتنا كسوريين، أمام هذا الشرح، كانت أقل بكثير من دهشة الخبيرَين غير العارفين بأحوالنا الواقعية. هما كانا يتحدثان عما يبدو من وجهة نظرهما بديهيات، فيما البديهي لدينا هي حفرة “التضامن”، حيث تُعدم أجهزة أمن “دولتنا” عشرات المواطنين كالعصافير، ثم تحرقهم وتغلق الحفرة عليهم بدم بارد، منهية دورة حياتهم البائسة.
مع ذلك، بقي ذلك الخط الذي صنعه الخبيران على اللوح بسيطة، أشبه بحزّ على القشرة الدماغية للحاضرين، وبدا للعديد منا مثل قشة يتعلق بها غرقى يتهددهم الفناء والاندثار.
لماذا لم تفكر دولنا والقائمون عليها يوماً، بخط مثل هذا يحفظ حياتنا وكرامتنا؟ لماذا كان وما زال العكس هو الصحيح في بلادنا، حيث تعمل السلطات على جعل مسارنا القصير في هذه الدنيا مأساة من فصل واحد، عنوانها القهر من المهد إلى اللحد؟
في بحثي عن الإجابة، وبينما كان السياسيان يشرحان بإخلاص وجدية، كيف تقوم دولتهم على شبكة من المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تحمي مواطنيها وتوفر تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة والسلطة، فيما يتولى المسؤولية العامة أشخاص يتم تفحص أخلاقهم وسلوكهم وتقليبه على الملأ، على نحو يرقى إلى السادية، وحتى لتظنهم يبحثون عن أنبياء لا عن قادة سياسيين،.. في تلك الأثناء كان ذهني يتجه إلى سوريا، حيث تتكون “الدولة” من شبكة أجهزة أمنية متوحشة، يقودها ضباط دخلوا الكليات العسكرية بشهادة ثانوية حصّلوها بلا استحقاق غالباً، وتخرجوا بعد ثلاث سنوات قضوها بتمجيد “القائد”، ليفرزوا بعد ذلك الى تلك الأجهزة، وليصيروا قادة “الدولة والمجتمع”، وهم على تلك الحال من الأميّة الفكرية المطلقة، وفي درك الانحطاط الأخلاقي الذي لا قاع له.
في دول الرعاية، يقال أن جذر الفكرة آت من الأنظمة المَلَكية والاقطاعية السابقة، أي الرعاية الأبوية، فيما يرجعها البعض إلى أصول دينية مسيحية، أو إغاثة الفقير، التي كانت سائدة في تلك المجتمعات. لكن مصيبتنا بـ”الدولة” لا تتعلق بالمنشأ أو الجذر أو الأيديولوجيا، فإذا كان الشعار المرفوع بصوت عال هو العروبة والاشتراكية، فعلى المواطن توقع سقوط البراميل المتفجرة، وإن كانت الدولة باسم الدين فعليك أن تتوقع مرور سكين الذباح على عنقك في كل لحظة، ولا شيء سوى ذلك.
إن دولة الرعاية الاجتماعية هي منتج أوروبي، ولدت في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، وتطورت هناك، وبلا جدال، لا يوجد أي صلة لها بعالمنا المشرقي، فلماذا تسعى سوريات وسوريون للتعرف عليها من هذا القرب؟
الإجابة ببساطة لأن هؤلاء ليسوا سوريي ما قبل العام 2011، هم من ذلك الجيل الذي انتفض رافضاً ما وجَدَ عليه آباؤه، وحين أجهضت ثورتهم، قطعوا البحار والغابات ليعبروا إلى أوروبا، ليس لأن الأخيرة دعتهم أو فتحت لهم الأبواب، بل لأن طموحاتهم، رغم تعثرها المؤقت والقسري، تتجاوز الإقليم برمته. وهم اليوم جزء من “نظام دولة الرعاية” بجانبه الاجتماعي والمهني، وإن كانوا لم يصبحوا بعد جزءاً من منظومته السياسية، فلأن أنظارهم في هذا الميدان ما زالت معلقة ببلادهم وحدها، التي يريدون انتشالها، وقطرها، خارج ذلك المستنقع التاريخي الذي ترزح فيه منذ قرون.
إن اختيار مليوني شخص من السوريين، أي عُشر الشعب، الملاذ الأوروبي دوناً عن سواه، ليس بلا معنى. واندماجهم السريع في منظومته الاجتماعية والإدارية، وانخراطهم في سوق العمل، ليس بلا هدف. ونوع اهتماماتهم السياسية والفكرية والثقافية والقيميّة التي يشربونها على مهل، والتي تركز على الإنسان، أي على البعد الأخلاقي الذي لا يلحظ الأيديولوجيا، بل يناوئها، لن يكون بلا ثمرة، وهو إشارة واضحة إلى المنحى الذي يسير فيه ذلك المجتمع، المتجه غرباً، وتكريس ذلك ليس سوى مسألة وقت.
المصدر: المدن