حسين عبد الحسين
روت لي صديقة وزميلة كانت تعمل في صحيفة لبنانية أنها ذهبت يوما لتغطي عملية إعادة انتخاب رئيس سوريا الراحل، حافظ الأسد. في لبنان كان يعمل قرابة مليوني سوري، وفي بيروت، أقام مركز الاستخبارات السورية في فندق بوريفاج قلم اقتراع توافد إليه السوريون المقيمون في لبنان، ومعظمهم كانوا من العمال المياومين.
وصلت صديقتي إلى الفندق وهي ترتدي سترة مكتوب عليها “صحافة”، ومعها أحد المصوّرين، وراحت تجري مقابلات مع الناخبين. فجأة، أطل عليها أحد المسؤولين عن صندق الاقتراع وأعطاها ورقة اقتراع، ودعاها لانتخاب الأسد. ضحكت وخالته يمزح، وقالت له لكني لبنانية، فأجابها “وشو عليه؟”.
أضافت الصديقة أنها حتى كلبنانية، أحسّت بالخوف من المخابرات السورية، فما كان منها إلا أن وضعت الورقة في صندوق الاقتراع. في اليوم التالي، أعلنت كل وسائل الإعلام أن السوريين أعادوا انتخاب الأسد بنسبة أكثر من 99 في المئة.
المشهد تكرر معي بعد سنوات، وإن بصورة مختلفة قليلا، ففي حمأة استعدادات الولايات المتحدة للحرب في العراق ولنشر الديمقراطية في العالم في عام 2003، أعلن الرئيس العراقي صدام حسين نيته إقامة استفتاء على رئاسته لتأكيد أن العراقيين يختارونه بملء إرادتهم.
كنت في بيروت ورنّ هاتفي. القائم بالأعمال في السفارة العراقية، وكان بيننا معرفة سابقة، اتصل بي شخصيا وسألني: “ها حسين؟ تعرف شكو باجر (تعرف ماذا سيحصل يوم غد)؟”. تلعثمت ولم يخطر لي ما الإجابة التي يتوقعها الدبلوماسي العراقي. تفاديا لإحراجي، بادرني بالقول: “باجر يوم الزحف الكبير”.
يوم “الزحف الكبير” هي التسمية التي أطلقها صدام على الاستفتاء.
تظاهرت بأني كنت أعرف مسبقا وكنت أنوي الذهاب للسفارة للتصويت. وحاولت المزايدة على القائم بالأعمال، وقلت له إن الصحيفة التي كنت أعمل فيها أصرّت أن أكتب لها تقريرا عن تصويت المغتربين العراقيين في بيروت وعن الاحتفال الكبير الذي سيقيمونه. قال لي القائم بالأعمال: “ايه والله عاشت إيدك، أنت ما تقصّر”.
طبعا القائم بالأعمال هذا كان لطيفا لأنه كان من الدبلوماسيين من خريجي وزارة الخارجية. الدبلوماسيون الآخرون في بيروت كانوا من المخابرات، لا ذوق عندهم ولا لطافة، فقط صمت وعبسة ومعاملة فجّة مع أي عراقي يزور السفارة.
أنا كنت مزدوج الجنسية، عراقي لبناني، وكان يمكنني تجاهل السفارة العراقية في بيروت، لكن الكشف عن لبنانيتي كان سيكلف عائلتي كل ما تملكه في العراق، وهو ما أجبرني على تجديد جوازي العراقي بشكل دوري، وتجديد إقامتي في لبنان، مع أني لبناني.
لبنان، وبسبب كثرة مغتربيه، كان معتادا ازدواجية الجنسية، وكان “الأمن العام اللبناني” يعاملني بلطف. في كل مرة أقوم فيها بتجديد إقامتي، يقول لي “الأمن العام” لكنك لبناني لا تحتاج إقامة. أشرح لهم وضعي العراقي، فيردون إذا هيك “تكرم عينك”، وطبعا غالبا ما يكون العاملون في الأمن العام من بلدتي، بعلبك، أو يعرفون أقاربي أو أعرف أقاربهم. كان لبنان بلدا ودودا جدا مقارنة بصدام وبعثييه واستخباراته.
في يوم “الزحف الكبير”، تواعدت مع مصوّر الصحيفة على اللقاء أمام السفارة العراقية. تأخّر، فوجت نفسي مضطرا للدخول وحدي. جلسنا نحن عراقيو لبنان في صالة كبيرة ووزّع عيلنا موظفو السفارة أوراق اقتراع مكتوب عليها “هل تجدد البيعة للسيد الرئيس صدام حسين”، مذيلة بخياري “نعم” و “لا”.
ثم قال لنا موظفو السفارة “الأخوة ممن يرغبون بالاقتراع خلف الستارة، عندنا ستارة هنا”، وأشاروا إليها. أدرك العراقيون المطلوب. “ستارة، من ينتخب خلف ستارة، أعطيني سكينا لأطلع دمي وابصم للسيد الرئيس القائد على نعم بالدم”. هكذا رحنا نتظاهر كلنا في القاعة بالسعادة لرسمنا دائرة على “نعم”. سعى كل منا أن يتأكد أن موظفي السفارة شاهدوه وهو يختار “نعم”.
ولتأكيد الولاء، وقف أحد الناخبين العراقيين. قال بعض الكلمات الحماسية، وأضاف “دفاعا عن منجزات ثورة تموز المجيدة، أعلن فتح باب التطوع لقتال الأميركان في العراق”. عظيم. بدأ دفتر التطوع يدور من ناخب إلى آخر. وصلني. ممتاز. أراني الآن ذاهب لقتال الأميركان. كتبت اسمي وتوقيعي. ثم وقف نفر آخر، وراح يغني “هلا يا صكر البيدا يلقاطع سكة بعيدة”، ودار رقص الجوبي، ثم بعض هتافات “بالروح بالدم نفديك يا صدام”.
وصل زميلي المصوّر، وقال لي “تعال أصورك تنتخب”، أجبته: “للأسف، انتخبت”. سمعني القائم بالأعمال وقال لي: “لا مشكلة”، وناولني ورقة اقتراع ثانية. رسمت دائرة حول “نعم” وأسقطتها مرة ثانية في صندوق الاقتراع. هذه المرة، مع صورة وأنا أهمّ بإسقاطها، وخلفي صورة صدام حسين وحولها إضاءة وورود.
في اليوم التالي، عنونت كل صحف العالم أن صدام حسين فاز باستفتاء إعادة انتخابه بنسبة مئة في المئة، وعنونت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” أن “العراقيين انتخبوا رئيسهم المثالي” (بسب حيازته نسبة مئة في المئة).
هكذا هي انتخابات حافظ الأسد وصدام حسين، وهكذا هي في الغالب انتخابات الرئيس السوري، بشار الأسد، للفوز بولاية رابعة أو خامسة أو سابعة، لا فرق. هي مسرحية ساخرة مخصصة لبعض وسائل الإعلام الحزبية، أو وكالات الأنباء الروسية والمسؤولين الروس، الذي ما يلبثون يناقشون الانتخابات في سوريا ويرددون أن الأسد رئيس منتخب، وأن الوجود الروسي والإيراني في سوريا شرعي لأنه بطلب من الحكومة الشرعية.
لدى الأسد حكومة، وهذا صحيح، لكن عن شرعيتها، اسألوا من اقترعوا لها، ولا تعاتبوهم لاقتراعهم، فقد تكون ظروفهم أملت عليهم ما لا يطيقون فعله، وهم يدركون أنها مسرحية، وأنهم شخصيات كومبارس يشاركون فيها، غالبا رغما عنهم.
المصدر: الحرّة