جسر – صحافة
(عبد الناصر العايد)
وقد كنت على وشك الانتهاء من كتابة الجزء الخامس والأخير هذا، والذي كان في الواقع محاولة لدحض التصور السائد، بل وعكسه كلياً، على ضوء رؤية الدكتور برهان غليون المعروفة في كتاباته العديدة حول المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات. وكنت أرمي من ذلك إلى القول بأن المشكلة واضحة بالنسبة إلى علم الاجتماع السياسي، وإنها ليست أحجية ولا سحراً أسود لاصقاً بنا، ولا مؤامرة تديرها قوى خفية، وإن كل ما علينا للخروج من هذا النفق هو تحكيم صوت العقل، وفهم المنطق الداخلي للمشكلة لحلها بمنأى عن غرائزنا وانفعالاتنا… لكن صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت فيديو لرجل مخابرات من الطائفة العلوية يُعدِم بدم بارد عشرات السوريين من المدنيين العزل، يُعتقد أنهم جميعاً من الطائفة السنية، بطريقة تستوفي كافة أركان جريمة الإبادة العرقية، الأمر الذي رفع الاستقطاب الطائفي إلى مستويات قياسية، وأصبح مجرد الحديث عن رؤية مخالفة للتوجه المهيمن، أي التحليل الطائفي، خطيئة يُلعن ناطقها على المنابر جميعاً.
لكنني وجدت بعد تفكير، أن هذه المناسبة ربما كانت أفضل توقيت لنشر هذا المقال، فحفرة “حي التضامن” ليست سوى فوهة النفق العميق الذي دفعت الفئة الحاكمة المجتمع السوري فيه منذ عقود طويلة، وأن تغذية الطائفية هي جزء أصيل من استراتيجيات هذا المنظومة لحماية نفسها وإدامة سلطتها، “فهي من ناحية شعار لتعبئة المؤيدين، ومن ناحية أخرى تهمة لتشويه الخصم أو حتى تصفيته”. وانصياعها لها، ما هو إلا مشاركة في اللعبة الدموية، من موقع الضحية المنفعلة والمنقادة انقياداً أعمى لا أكثر.
إن القضية التي أردت أن أحاجج دفاعاً عنها، تتلخص في القول إن النزاع الطائفي ما كان ليقع في مجتمعنا لو كانت لدينا دولة حقيقية، ليس لأن الدولة تقمع الطرح الطائفي وتمنعه، أو تلغي ذاتيات الجماعات المتمايزة أو توحدها في ذاتٍ وطنية واحدة، بل لأن وظيفة الدولة هي تنظيم الصراع على السلطة داخل المجتمع. وهذا، حين يفتقد القواعد والنواظم القانونية والأخلاقية، يتحول من دون مقدمات إلى حرب اهلية.
ثمة من حاجج في أن سبب ضعف الدولة السورية يكمن في الانقسامات الطائفية والعرقية التي يزخر بها مجتمعنا. لكن برهان غليون، على سبيل المثال، يرى خلاف ذلك. فغالبية المجتمعات مؤلفة من أعراق وأديان مختلفة ومعتقدات متناقضة، مع ذلك لا تشتبك بالضرورة في حرب أهلية، كما أن مجتمعات عديدة متّحدة في العرق والدين معاً، ومع ذلك تخوض نزاعات دموية، والسبب عنده هو: “غياب الدولة الوطنية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتعاملهم كأعضاء رابطة سياسية واحدة ليس لأحد علامة فارقة أو امتياز على آخر بسبب الدين أو العرق أو المذهب”. أي “غياب الطابع الوطني والقومي الحقيقي لهذه الدولة، أي السياسة غير الوطنية والتطبيق غير النزيه للقانون او احيانا تعطيله”. وأجد تصديقاً لهذه الفرضية في حالة لم تجف الدماء التي أريقت بسببه، وهي حالة المناطق السنّية العربية التي خرجت من سيطرة النظام، وصارت تحت سيطرة فصائل متحدة هوياتياً من الناحية المذهبية والعرقية، لكن الحروب الأكثر دموية دارت بينها، بين “داعش” و”النصرة”، و”فيلق الرحمن” و”جيش الإسلام”، واللائحة تطول. ولن نستطيع أن نفهم ذلك إلا كصراع على السلطة والموارد، يفتقر إلى القوانين والأخلاقيات التي تتمتع بها كل المجتمعات المتقدمة، أي أنه صراع خارج الأطر السياسية المعترف بها والمتوافق عليها.
إن المسؤولية التاريخية عن ضعف الدولة السورية أو إضعافها، تقع بالدرجة الأولى على عاتق النخب، أي القيادة الاجتماعية، التي سلبت المجتمع حق التعبير عن نفسه عبر ممارسة السياسة، وذلك لإبعاده عن ميدان السلطة، التي زُفّت في النهاية، بقضها وقضيضها إلى ثلة من عديمي الضمير والبصيرة، ليتمتعوا بها بعبثية أودت بشعب كامل إلى حالة من حالات الجحيم لم تعرف البشرية مثلها قط.
ولكي يكون المرء منصفاً وعادلاً يجب أن يقول: إن تخريب الدولة قد بدأ على أيدي النخب المدينية، وهي سنّية، وأطيحت أسسها عبر الانقلابات العسكرية، التي قاد أول أربعة منها، ضباطٌ سنّة، ثم انخرطت الأقليات في عملية تخريب وتهديم ما تبقى من أسس الدولة اعتباراً من بداية الستينيات. لكن التدمير بلغ ذروته بالطبع عندما تحول إلى عملية افتراس وحشي للدولة والمجتمع معاً، على أيدي الحلقة الأخيرة من حلقات المخربين، أي عصابة الأسد التي استمدت قوتها وحمايتها من عصبية الطائفة العلوية.
لسهولة تناول المسألة، سأعيد تحقيب مسار الدولة السورية خلال القرن الأول من عمرها في أربعة أدوار رئيسية هي: دولة الانتداب، ودولة الامتيازات، ونظام الطائفية، وحقبة السوق السوداء للسياسة.
دولة الانتداب (1920-1946):
على الرغم من كل مساوئها، كانت دولة الانتداب، التي تستمد إطارها العام ومؤسساتها من الدولة الفرنسية الراسخة، دولة شبه حقيقية. ولأنها كانت كذلك، فقد تنامت داخلها عناصر تكوّن الدولة – الأمة. ففيها ازدهرت الحريات السياسية، وتشكلت أهم الأحزاب التي عرفتها البلاد حتى اليوم، وشهدت الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير ذروتها التي لم تبلغها بعد ذلك أبداً، والأهم من ذلك كلها إنها عرفت أبهى مراحل الاندماج الوطني السوري، فالدويلات التي اصطنعها المنتدِب على أساس مذهبي، مثل دولة العلويين والدروز ودويلات السنّة في دمشق وحلب والجزيرة، حاربت بالمعنى الفعلي لتعاود الاندماج في الكيان الوطني الواحد، وتُوّج ذلك كله بالكفاح السياسي العام للحصول على الاستقلال الناجز والتام للبلاد.
لقد انتهت تلك الدولة “الانتقالية” لتخلف للسوريين الدولة الوطنية التي تتمتع بواحد من أرقى الدساتير في العالم، وببرلمان ورئيس جمهورية منتخبَين بنزاهة. وكان يفترض أن يعني زوال سلطات الاحتلال الأجنبي، انطلاق عملية بناء الدولة بخطى متسارعة، لكن الذي حدث كان خلاف ذلك، لأن “صناعة الأمم ليست حتمية ولا تلقائية تتقدم من نفسها، لكنها ثمرة جهود واعية واختيارات سياسية هادفة ومقصودة “، كما يقول غليون.
دولة الامتيازات (1946-1949):
ما أن انسحب الفرنسيون وحازت سوريا استقلالها، حتى بدأ تقويض أسس الدولة الوليدة من قبل القوى التي يُفترض أن تؤسس لنهضتها. فمن ناحية، زال العامل الموحد لتلك القوى وهو مناهضة المستعمر، ومن ناحية أخرى بدأ الصراع الداخلي على السلطة على أسس غير وطنية وغير شرعية.
فالنخبة التي تسيدت المشهد هي نخبة مدينية بالدرجة الأولى، ظنت انها من خلال نضالها لكسب معركة الاستقلال، تستطيع أن تتمتع بامتيازات خاصة على نحو ما كانت تتمتع به النخب المدينية في زمن السلطنة العثمانية، من دون الاخذ في الاعتبار تغيير موازين القوى الاجتماعية خلال حقبة الانتداب التي امتدت نحو ربع قرن، وعلى الأخص قضية صعود نخبة ريفية في قطاع الجيش، التي لم تستطع تلك النخبة دمجها في آلة الدولة كجزء لا بد منه من الناحية الإدارية، وكفئة اجتماعية لا يجوز إقصاؤها، بل كانت ثمة محاولة لإلغاء ذلك التطور من جذوره وإعادة الزمن إلى القرن التاسع عشر، عبر حل تلك القوة العسكرية وإعادة أبناء الريف من ضباط وجنود إلى فلاحة آبائهم وأجدادهم. وقد شهد مجلس النواب حينها مناقشات عاصفة قادها النائب الدمشقي صبري العسلي، لتسريح كل منتسبي الجيش الموروث عن سلطات الانتداب، بسبب تركيبته التي تطغى عليها الأقليات. وفي العموم، عانى منتسبو الجيش من الاحتقار الشديد في المدن، حتى أنهم كانوا يبدلون ثيابهم بثياب مدنية قبل مغادرة الثكنات في مدينة دمشق وسواها، وكانت الأسر المدينية، ولا تزال، تتفاخر بأنها لا ترسل أبناءها إلى الجيش حتى لو ليصيروا ضباطاً ما لم يكونوا فاشلين تماماً.
من ناحية أخرى بدأت النخب الحاكمة باستغلال سلطتها عبر تقاسم الاقتصاد والمناصب واحتكار السلطة الإدارية، وكانت أبرز ملامح ذلك، توزيع رئيس الجمهورية لامتيازات الاستيراد، والوكالات الحصرية للشركات الأجنبية، لأشخاص بعينهم من أعيان المدن، الذين كانوا هم أنفسهم أعضاء مجلس النواب الذي ينتخب الرئيس، وهم أنفسهم الذين استخدمهم كرأس حربة لتغيير الدستور العام 1948 بحيث يمكنه الترشح لولاية ثانية، وهو ما لم يكن مسموحاً به. ووفق ما وصلنا من كتابات من تلك الحقبة، فقد سلك مؤيدوه، مثل النائب أحمد قنبر، سلوكاً لا يختلف قيد أنملة عما فعله شبيحة الأسد من ذوي الامتيازات، عندما قادوا الحملة الشهيرة في مجلس الشعب لتغيير الدستور العام 2000، ليتمكن بشار الأسد من خلافة أبيه. وإذا كنا قادرين على رؤية النتائج الكارثية للاستهتار بالدستور في حالة الأخير، فإننا قادرون أيضاً على تخيل النتائج التي لا تقل خطورة لما فعله القوتلي، وهو أمر يتجاوز مسألة تقويض الدستور كأساس رمزي وحقوقي وأخلاقي للدولة. فالأمر تبعته تطورات سياسية خطيرة، إذا اندلعت التظاهرات في دمشق وحلب احتجاجاً على هذا الإجراء، واحتج الطلاب الذين كانوا وما زالوا يحتفظون بالحس الوطني وفي ظل أجواء الحرية السياسية التي كانوا يتمتعون بها في مرحلة الانتداب، عندما كانت تظاهراتهم رأس حربة النضال الوطني. وامتزجت الاحتجاجات ضد هذا الفساد السياسي بالهزيمة في حرب فلسطين، وقرن بين الأداء السيء للجيش السوري مع فساد نخبته الحاكمة التي لا تعبأ سوى بامتيازاتها، وتبدو حادثة إحراق الطلاب لوكالة أحمد الشراباتي وسط دمشق، كمثال نموذجي للحالة التي ننظر فيها الآن، فقد ولاه القوتلي وحكومته وزارة الدفاع، وكلفه بمهمة تأسيس جيش سوري جديد، وهو رجل الأعمال الذي لا يفقه شيئاً في العسكرة، بل إن جلّ اهتمامه كان ينحصر في عمله بوكالاته التي تحتكر استيراد الماركات الشهيرة من الأدوات المنزلية والكهربائية الأوروبية والأميركية، بموجب امتيازات خاصة وحصرية منحتها له الحكومة ذاتها التي هو عضو أساس فيها، والرئيس الذي يتحكم بهذا السوق الأكثر ازدهاراً في ذلك الحين.
لقد استشعر القوتلي والنخبة المحيطة به أنهم عاجزون عن حماية امتيازاتهم، وكان لا بد من العصا الغليظة وهي الجيش، فاستُدعي لقيادته ضابطاً سرّح منه سابقاً لفساده، هو حسني الزعيم، فانزل المصفحات الى الشوارع، وقمع التظاهرات، ونصبت قواته خيامها في حرم جامعة دمشق، بما ينطوي عليه ذلك من رمزية كبيرة إلى تهاوي أسس علاقة الدولة بالمجتمع.
إذا شئنا أن نؤرخ للحظة انحراف مسار الدولة الفعلي، فهو في ذلك التاريخ تحديداً، فـ”بدل بناء المواطنية عمل القائمون عليها، منذ الاستقلال، ومن وراء تغيير وتبدل النخب الحاكمة، على تغذية روح الجهوية والعصبية والطائفية والقبلية والعشائرية. وبدل بناء التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الثابتة والراسخة، أصبح النظام مصنعاً لتوليد القوى والمافيات والمصالح الجزئية والمتضاربة، فصار نموذجاً للانقلاب الدائم على الشعب وانعدام القاعدة والدستور”.
لقد استشعر العسكر قوتهم، مقرونة بما يُعاملون به من احتقار من قبل نخبة سياسية تفوقهم فساداً وهشاشة، فانقلبوا على تلك الفئة، التي سرعان ما تكشّف زيفها، فقد استسلم رجال الدولة، وممثلو الشعب، لثلة من العسكر المغامرين المعزولين، وخانوا التفويض والقسم الذي خضعوا له بصيانة الدستور، وآثروا السلامة الشخصية والفوز بما اغتنموه سابقاً. وهكذا استقال شكري القوتلي، رئيس الجمهورية، وخالد العظم رئيس الوزراء، من دون أي عنف مادي، وأعلن رئيس مجلس النواب فارس الخوري تأييده للانقلاب من منزله.
نظام الطائفية 1949-1969:
نحن نتحدث عن مجمل المرحلة التي وجد العسكر فيها أنهم الأحق بالسلطة، أي مرحلة انحطاط المجتمع وتهافت قواعد صراعه السياسي، وكل “مجتمع يتحول مع انحطاط نظامه الاجتماعي الى نظام عصبوي”. وبدأت عملية بناء التكتلات الكبرى العصبوية داخل الجيش، على أساس مناطقي وعشائري بالنسبة للضباط السنّة، مثل كتل الشوام والحموية والحوارنة والديرية، وعلى أساس طائفي بالنسبة للأقليات. ويسمي غليون مجمل هذا الوضع بنظام الطائفية، لأنه يعني “استخدام العصبيات الطبيعية ضمن نظام يتجاوزها في غاياته ووسائل عمله، وفي هذه الحالة فإن الطائفية ليست العصبوية الدينية، أو استغلال العصبية الدينية فحسب، وانما أي عصبية اجتماعية موجودة في لعبة الولاء والسلطة”. وجعلها جزءاً من الصراع على السلطة والنفوذ، عبر وضع كل انتماء من هذا النوع في مواجهة الانتماءات الأخرى، فالجماعة لا تتكون إلا بالعصبية، “أي بشعور التضامن والتلاحم الجماعي تجاه الجماعات الأخرى”.
وبنتيجة الاستقطابات المتعددة تطيفت الدولة، كما يقول غليون، وأخضعت جزئياً أو كلياً لمصالح فئة معينة، اجتماعية أو مذهبية، لا فرق، مما أفقدها صفتها كمؤسسة عمومية أو للعموم، الأمر الذي أدى “كردة فعل طبيعية إلى تدويل الطائفة، أي دفع الجماعات المختلفة، الدينية أو القروية أو القبلية، إلى تفعيل علاقات التضامن والتعاون الموجودة في ما بينها وتجييرها كقناة من قنوات تداول السلطة والصراع عليها، ما يعني شحنها بقيمة ووزن سياسيتين متزايدتين ايضاً”. وهكذا نقل الصراع على السلطة الى المجتمع نفسه، بدلاً من أن يكون معركة بين قوى سياسية، كالأحزاب مثلاً، وأصبح الولاء للطائفة يتقدم “على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله”.
ومع كل ما ينطوي عليه هذا النظام من رداءة وعدم شرعية، إلا أنه كان يتمتع بفضيلة واحدة على الأقل، هي أنه يقدم “للجمهور والنخب السياسية المتنافسة ساحة ولو محدودة وسرية ومحفوفة بالمخاطر لإقامة حياة سياسية ولو في صورة مشوهة، وفي حدها الأدنى، وبتكاليف سياسية وأخلاقية ودينية عالية ومخاطر كبيرة حقيقية”. بمعنى استخدام “العصبيات والتضامنات الأهلية، والدينية والقبلية، من أجل الالتفاف على التحريم الواقع عليها، وفتح طريق التداول في أمور السلطة والشأن العام”.
لكن الفساد لا بد أن يقود إلى المزيد منه، والانهيار لا بد أن يتبعه انهيار، ما لم تتم مواجهته، وهكذا أفضى هذا الدور إلى أعلى مستوى من الفساد وخراب الدولة السورية، وهي ما سنعبر عنها بمصطلح “السوق السوداء للسياسة”، والذي استخدمه غليون للإشارة لنظام الطائفية ذاته، إلا أنني وجدت أنه يمكن اشتقاقه لوصف أدنى مراحل الانحطاط التي عرفتها الدولة والنظام الاجتماعي السوري.
مرحلة “السوق السوداء للسياسة” (1970-؟):
نتحدث هنا عن مرحلة حكم حافظ الأسد ووريثه، والتي تمتد منذ العام 1970 حتى يومنا هذا، وفيها انتقلت الدولة السورية من حالة تقاسم ومحاصصة غير معلنة بين الطوائف، إلى مرحلة سلطة القلة التي ترتكز على عصبوية طائفة واحدة، ألغت السياسة والدولة والمجتمع، وأقامت سوقاً سوداء للسياسة، هيمنت عليها “باستخدام مؤسسات الدولة لبناء عصبية طائفية متماهية معها ومستقوية بها، والعمل في الوقت نفسه على حل جميع التضامنات الاهلية الأخرى ومنعها من توليد أي عصبة طائفية، تحد من تغول الطائفة /الدولة أو الدولة المتحولة إلى طائفة هي نفسها”.
السوق السوداء هي إذن سيطرة طائفة وشد عصبها بالامتيازات والمنافع، والخوف من الدم الذي تشترك سفحه، مع إلغاء قدرة الجماعات الأخرى، عبر “تحويلها الى شبكات متعددة ومترادفة لا تجمعها علاقة عضوية، ويمنعها التنازع من أجل البقاء عن الاتحاد ومقاومة العصبة المهيمنة مثلاً، أو إنشاء موقف وطني”. وهذا أسوأ من سابقه، “فالطائفة تظل تعمل كنظام سياسي يدافع عن مصالح الأفراد ويحل مشكلات انتمائهم لها ما دامت لا توجد هناك أطر أخرى أكثر فاعلية في تنظيم مشاركة الفرد في حياة الجماعة وفي الدفاع عن حقوقه ومصالحه، وفي تأمين كرامته وضمان توازنه النفسي والمادي”. بينما في السوق السوداء، “يرمي الفرد وحيداً أعزل ومجرداً من كل وسيلة دفاعية أمام الدولة وأجهزتها الأمنية”، بما في ذلك طائفته.
النهاية التي لا بد منها… التفجر!
يؤكد برهان غليون مراراً أن مشكلة الأقليات هي “بالدرجة الأولى مشكلة الأغلبية، أي مشكلة المجتمع العام ذاته”. وحذر على نحو خاص من “تحول الجماعة القومية الكبرى، الأغلبية، إلى طائفة، تنحو إلى السلوك كطائفة بعدما كانت تسلك تجاه ذاتها وأعضائها وتجاه الجماعات الأخرى كأمة، أو أساس للأمة”. وفي الواقع لم يعد لهذا التحذير من معنى، فبعد أربعة عقود من إطلاقه، أجبر التحامل الذي لا يمكن احتماله الطائفة السنية في سوريا على الخروج من سكوتها الذي كان يعول عليه نظام الطائفية ونظام السوق السوداء، وعلى الرغم من أن الثورة السورية كانت في مطلعها تنادي بإعادة الدولة للسوريين، كل السوريين، إلا أن العصابة/ العصبة الحاكمة نجحت بفضل اتقانها لاستراتيجيات وتكتيكات الصراع الطائفي وسوق السياسة الأسود، بجر الجميع إلى الميدان الذي تملك فيه مزايا تفوق نسبية، أي الحرب الأهلية.
هل يمكن استعادة الدولة السورية؟
إن قبول المنطق القائل بأن مجتمعاتنا مقسمة طائفياً ومذهبياً وعرقياً على نحو يمنع قيام دولة رشيدة، يعني في ما يعني أن أزمتنا هي “نتيجة عاهة بنيوية مرتبطة بتكوين المجتمعات العربية المشرقية ذاتها، ولا يمكن فصلها عنها طالما بقيت هذه المجتمعات ذات بنية تعددية. وأن لا أحد يملك حلا نهائياً أو علاجاً شافياً لها، وعلينا أن نتعايش معها”. ويعني أيضاً استحالة انجاز مجتمعاتنا لمشروع “الأمة بالمعنى الحديث، أي الجماعة التي تنظم نفسها في إطار دولة ليس لخدمة عقيدة معينة، لكن في سبيل سعادة الجميع وسعادة البشر”.
إن قراءة المشهد من زاوية كونه صراعاً على السلطة والموارد، تتم تغطيته لغايات الحشد والتعبئة بأيديولوجيا أو عصبية ما، يقودنا إلى الحل المنشود تلقائياً، وهو ببساطة خروج كل واحد منا من الخندق الطائفي أو العصبي، ولقاء الآخرين المشابهين على صعيد الوحدة السياسية أو الإجماع السياسي “الذي يشكل قاعدة قيام سلطة مركزية شرعية مستقرة وثابتة”، أي الدولة الحديثة، التي لا يمكن “أن تجد الشرعية خارج الإجماع السياسي”، وعندها يصبح حل مسألة الأقليات والمسائل الطائفية رهناً بحل “مسألة تغيير السلطة واستيعاب الدولة للتطورات الدائمة التي تحصل على صعيد القوى الاجتماعية”. مع الانتباه إلى أن هذه العملية يجب أن لا تؤدي إلى اقتسام الدولة “على منوال التوزيع الطائفي المتساوي أو النسبي للحصص، لكن على العكس، رفع الدولة عن مبدأ القسمة نفسه، وتحويلها إلى إطار الاستثمار المشترك في الحريات العامة والتأهيل الإنساني والاجتماعي والعلمي والتقاني”… إذ “لا يمكن لأي دولة أن تقوم بالمفهوم الحديث المواطني مع الطائفية، وليست الدولة الطائفية دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما هي فوضى سياسية وحرب أهلية دائمة كامنة أو مؤجلة أو مفتوحة”.
أعرف جيداً مقدار صعوبة تنفيذ هذا الحل النظري، بل أعرف عن خبرات ملموسة، إن الخروج على “نظام الطائفية” بشكل عام، ومن “السوق السوداء للسياسة” بشكل خاص، عمل تحف به المهالك ودونه خرق القتاد، وسيجد الفرد من أي طائفة كان أن “من مصلحته التمسك بالطائفية في وجه الأفراد الآخرين ليس لحماية نفسه من الطوائف الأخرى فحسب، لكن من أبناء طائفته أنفسهم”. فبقدر أكبر من الوحشية التي جزر فيها العلويون مواطنين سنّة، تمت تصفية علويين حاولوا الانشقاق عن منظومة الأسد القاتلة، وهم سيفعلون ذلك بعنف أكثر اليوم وغداً، وبالمقدار نفسه من الوحشية التي ارتُكبت فيها مجزرة التضامن. وارتكب تنظيم “داعش” مجازر جماعية بحق السنّة، ولا تغيب عن بالي مجزرته في مسلخ الأغنام والابقار في بلدة معدان المجاورة لقريتي، لشبان سنّة من المنطقة، تمت “التضحية” بهم مثل البهائم تماماً، ونُحروا بالسكاكين التي تذبح بها الأنعام، ومتى؟ صباح يوم عيد الأضحى ذي المكانة الجليلة عند المسلمين السنّة، ليس لأن هؤلاء الشبان عارضوا أو خالفوا التعاليم الدينية، فهم مسلمون ملتزمون على الأقل ظاهرياً، وبعضهم ظل ينطق شهادة التوحيد حتى الرمق الأخير. فما أنزل بهم في الواقع هو جراء وقوفهم في وجه سلطة التنظيم، الذي قرر أن ينكّل بكل من يقف في طريقه أو يخالف نهجه الطائفي. فالطائفية شيء، والدين شيء آخر تماماً، والأمر ينسحب على كافة الطوائف والأقليات الأخرى من دون استثناء. لذلك فإن اختيار المرء الانشقاق عن قطيعه الطائفي أو العرقي، والتأسيس مع آخرين لإطار وطني، أي دولة جامعة، و”الانفتاح على كل القوى الاجتماعية، لاستخلاص اغلبية سياسية”، يبدو اليوم مهمة مستحيلة، لأنها تتعلق بالماضي، أو التاريخ الذي ليست لنا أي قدرة على تغييره، وليس لنا سوى حرية النظر إليه وتقييمه. مع ذلك علينا أن نتذكر دائماً أن المستقبل من صناعتنا، ولنا حرية العمل لتشكيله، بشرط امتلاك القدرة على دفن الماضي، وبدء الحوار بين كل القوى الاجتماعية والأهلية، بعد إسقاط أو “تحييد السلطة الراهنة، وفتح باب التغيير الذي هو شرط لتجاوز الأزمة في أبعادها العقيدية والسياسية والاقتصادية معاً”. واستعادة الشعب لحقه الثابت في تحديد وتشكيل الدولة، عبر استعادته لحقه بممارسة السياسة، التي هي “وساطة جماعية ووسيلة لإيجاد التسويات الضرورية للحفاظ على الوحدة الاجتماعية”، والسياسة لا يمكن أن تحيا في عصرنا الراهن خارج قاعدة الاحتكام للديموقراطية من جهة، ومن دون إعادة الاعتبار للوطنية، كفكرة مؤسسة اجتماعياً، من جهة أخرى.
ختاماً، أجدني معنياً بالتوضيح، بأن ما تقدم ينطوي على دعوة لمؤيدي النظام لاتخاذ خطوة ما قبل فوات الأوان، لكنه في الجوهر تذكير لجمهور الثورة السورية، بأن هذه الحركة التاريخية الكبرى، لا يجب أن تنزلق تحت أي ظرف من الظروف، إلى المواقع التي نشأت لتحاربها، فتلك هي المصيبة التي ستطيح ما تبقى لنا ولأبنائنا واحفادنا من أمل.
(*) المراجع:
– برهان غليون -نظام الطائفية من الدولة الى القبيلة – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
– برهان غليون-المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات-المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
– سمير أمين وبرهان غليون –حوار الدولة والدين-المركز الثقافي العربي.
المصدر: موقع المدن