جسر: متابعات
ما من شك في أننا نعيش، عبر الثورات الشعبية المتواصلة منذ عقد، لحظات استثنائية من تاريخ الشعوب العربية وتاريخ الشرق الأوسط وتاريخ العالم أيضا، تجمع بين زمن المأساة الدامية التي ترافق الولادة العسيرة ونشوة الانتصار الذي يعبر عنه هذا الانفجار المدوّي للحرية، في منطقة لم تعرف، منذ عقود طويلة، سوى حياة القهر والذل والعبودية. تختلط في هذه اللحظات بالضرورة مشاعر الفرح للانعتاق من الأسر ومشاعر القلق على مستقبلٍ لا يزال سرّه في عهد الغيب، فبقدر ما حرّرت القفزة الكبرى الشعوب، أو هي في طريقها إلى تحريرها، من قبضة نخبة حلت محل السلطة الاستعمارية وتمثلت تقاليدها، وضعتها أيضا أمام تحدّي كتابة الصفحة الجديدة من تاريخٍ لا يزال مفتوحًا على كل الاحتمالات، والتصدّي لمهام يحتاج تحقيقها إلى تعاون قوى اجتماعية وتيارات فكرية وسياسية عديدة ومتباينة المصالح والغايات، وشق مسارات إبداعية غير مطروقة لعصر جديد.
أول هذه التحدّيات ما يتعلق بالفوضى العارمة التي تميز الوضع الإقليمي الذي يفتقر فيه الأفراد والجماعات والدول أيضا إلى أي قواعد ومعايير ثابتة أو اتفاقات ومواثيق ومعاهدات مقبولة ومتفق عليها لتنظيم العلاقات بين الأطراف جميعا، وفي كل ميادين الحياة الداخلية والخارجية. وهذا ما يجعل من هذه المنطقة التي نسميها الشرق الأوسط غابةً بريةً بالمعنى الحقيقي للكلمة، يحكمها على جميع مستويات العلاقة، الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية، مبدأ القوة وتوازن العنف، وينذرها للنزاعات والحروب الدائمة والمتعدّدة الأشكال، الداخلية والخارجية، ويحوّلها إلى تربة خصبة للتدخلات والاختراقات وعبث القوى المتنازعة المستمر بالتوازنات الداخلية والإقليمية، فهي بالمعنى الحرفي منطقة سائبة، لا تجري عليها لا قوانين ومواثيق داخلية ولا قوانين ومواثيق دولية.
وقد حولت هذه الهشاشة البنيوية للحياة الإقليمية المنطقة بالفعل إلى بطنٍ رخو وساحة سهلة لاستعراض القوة لجميع القوى المتنافسة على الهيمنة منذ نهاية الإمبرطورية العثمانية، وبؤرة رئيسية لتجلي التناقضات بين المصالح الكبرى واختبار الاستراتيجيات وتصفية الحسابات القديمة والجديدة والانقلاب على المواقف والتعهدات من دون عقاب ولا مساءلة. وعزّزت من هشاشتها الاستراتيجية حساسية الموقع الذي تحتله في الجغرافيا السياسية الدولية ومنابع الطاقة الاستثنائية، ولكن أيضا المكانة الروحية التي جعلت منها، منذ بدء التاريخ المعروف، أحد أهم مراكز الإبداع الدينية والرمزية، وأخيرا تحميلها عبء حل المسألة اليهودية الأوروبية.
لكل هذه الأسباب، لم تحظ ثورات الربيع العربي، كما بينت السنوات الدامية لهذا العقد، ولا تطلعاتها الديمقراطية بأي اهتمام أو دعم يذكر من القوى الديمقراطية الدولية، ومن باب أولى من الصين وروسيا التي اختارت إحباطها، فلا تستقيم الديمقراطية من دون التسليم بسيادة الشعوب، أو على الأقل الاعتراف لها بنصيبٍ من الإشراف على القرار العام الذي احتكرته للعقود الماضية نخبٌ محليةٌ، أرست حكمها واستقرارها على التفاهم، إن لم يكن على العمالة لهذه الدول بعضها أو جميعها. في هذه المنطقة من العالم، يشكل توازن العنف، بين الأفراد والجماعات والدول، الأساس الوحيد لـ”السلام” القائم بالضرورة على القهر وقبول الظلم والإجحاف، وأحيانا الاستعباد الحقيقي، أمرا معطى وقدرا. ومن الطبيعي أن يستنهض مشروع تأسيس واحة من السلام القائم على التضامن والتفاهم والمساواة والكرامة الإنسانية وحكم القانون، الذي هو جوهر الديمقراطية، الروح الوحشية الكامنة لدى جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة والعالم من المستفيدين من الوضع القائم، أفرادا وجماعاتٍ ودولا وتكتلات، والذين يروْن في الثورة محاولةً لحرمانهم من فريسةٍ مستحقةٍ وسائغة. وهذه الأطراف التي تجد نفسها محاصرة اليوم لتعدّد ساحات الثورة والانتفاضة، لن تتردّد في الانقضاض على الثورة وأفكارها ومبادئها في أي لحظةٍ تجد فيها أن الوقت أصبح مناسبا لها. ولا مجال لمواجهتها وقهرها من دون تعميق التواصل والتضامن والعمل المشترك بين بؤر الثورة المتعدّدة والمتباعدة.
ويتعلق التحدّي الثاني بالتحولات العميقة التي أحدثتها حركة الاندماج العالمي على نظام المجتمع الدولي، ومن أهمها التراجع الكبير لموقع الدولة نفسها، ولقدرتها على رسم مصائر شعوبها ومجتمعاتها، وتزايد انقسامها على نفسها بين دولةٍ ظاهرةٍ رسميةٍ أو شكلية ودولة عميقة هي التي تنزع إلى الاستفراد بالقرارات الاستراتيجية من خلال التنسيق مع الدول العميقة الأخرى في شبكة أفقية عابرة للدول، كما يجسد ذلك التعاون الواسع في الحرب العالمية على الاٍرهاب التي تكاد تكون الذريعة الأولى والثمرة المشتركة معا والمحرّمة لهذا الزواج بين أجهزة الأمن الدولية ومراكز البحوث وشبكات التجسس العابرة للدول والقارات، والتي تنزع إلى أن تشكل نواة دولة عالمية خفية تتحكّم بالقرارات الاستراتيجية العالمية، ولا تخضع لأي مراقبة شعبية، بما في ذلك داخل الدول الكبرى، بموازاة الدولة الظاهرة الرسمية.
يضاعف من هذا التراجع في دور الدولة وفاعليتها السلطة المتزايدة للمؤسسات الدولية المالية والشركات الكبرى الصناعية والتجارية، وشبكات التواصل الثقافي والمعلوماتي العابرة للدولة، والتي تساهم بشكل أكبر اليوم في السيطرة على الاقتصاد والتحكّم بثقافة المجتمعات وتطلعاتها وأحلامها ومشاعرها، فالمجتمعات تشب عن طوق الدول “الوطنية في كل مكان. أما في المناطق التي تتميز بتربتها السياسية الهشّة، فقد أصبحت الدول كالسفن العائمة من دون مرساة، أو كورق الخريف الذي يترنح أمام أي هبّة ريح. ولا يكف تهميش الدولة وإضعاف صدقية السياسة عن إنتاج مزيد من ظواهر العجز والفشل، وفي مقدمه الفشل في إنتاج جماعة وطنية متضامنة وواحدة، وتفاقم ظاهرة سوء الإدارة وتدهور مفهوم المسؤولية وخدمة الِشأن العام، وفي إثره تفشّي الفساد وصعود المطالب الاجتماعية، المتنوعة والمتباينة بالضرورة، والتي لا نزال نفتقر، في الوقت الراهن، في عموم المعمورة، إلى إطار سياسي عولمي قادر على التوفيق بينها والتعويض عن تقصير الدولة الوطنية في الوفاء بوعودها التحرّرية والتنموية والتمدنية معاً.
لا يقتصر هذا التراجع في قدرة الدولة وانحسار فاعلية السياسة على الدول الصغيرة فحسب، وإنما يمتد تاثيره إلى الدول الأكبر والأكثر انغراسا في الواقع التاريخي والجيوسياسي. وهذا ما ينعكس ويبرز في شعارات الثورات الاحتجاجية الراهنة التي تركز جميعها على إسقاط النظم والطبقات السياسية، وإدانة فشلها وفضح فسادها.
أما التحدّي الكبير الثالث فهو يكمن في المقاومة التي يظهرها نمط من النظم السياسية ولد في مستنقع الشرق الأوسط، وتمثل قيمه وتقاليده القاسية، وأصبح كالحرباء المنغلقة على نفسها، والمستعدة لتغيير جلدها والتعامل مع جميع البيئات الطارئة. وهذا ما يجعل من النادر أن تتمكّن الشعوب من دفع النخب الحاكمة إلى الانسحاب، من دون حروب مكلفة ومخاطر جسيمة.
فعلى الرغم من النجاح الذي حققته في تونس، ومنذ قليل في السودان، للانتقال السياسي من دون خسائر باهظة، لا يزال الرهان على القوة أو التهديد بالحرب الأهلية هو الغالب في بلدان أخرى عديدة. ويلعب الجناح العسكري من النخب الحاكمة، والذي كان، في حالاتٍ كثيرة، المستفيد الأول من استمرار الوضع على ما هو، دورا رئيسيا في الارتداد على الانتفاضات الشعبية. هذا ما أظهره الانقلاب العسكري على الرئاسة المنتخبة في مصر، وفرضه حكم طوارئ قاسياً، من دون إعلان رسمي، لاستعادة السيطرة على الأوضاع. وهو ما تبرزه أيضا مقاومة العسكريين العنيدة الانتقال السياسي في الجزائر بعد أكثر من سبعة أشهر من المسيرات السلمية، بينما لا يزال الصراع الدموي بين المليشيات المتنافسة السمة البارزة للوضع في اليمن وليبيا. أما في سورية، فقد أودى القمع الأعمى بالبلاد إلى كارثة قضى فيها النظام ونخبته الحاكمة على الدولة والمجتمع في الوقت نفسه، وجعل من البلاد حقل صيدٍ مفتوحاً لجميع القوى المتنازعة على تقاسم الغنيمة السورية. يحصل ذلك كله في مناخ من اللامبالاة الكاملة للمجتمع الدولي، وشلل المنظمات الدولية بما فيها منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
كما يبرز ذلك بشكل خاص أسلوب التعامل القاسي مع حركات التغيير الاجتماعية في سورية والعراق واليوم في إيران. من الواضح أن نجاح النخب الحاكمة في البقاء عقودا طويلة في مركز السلطة قد ولّد لدى الحاكمين شعورا عميقا بأحقيتهم في الحكم، أو بحقهم الطبيعي في أن يستمروا فيه، وبعدم أهلية الشعوب، بكل مكوناتها، للمشاركة في ما أصبح يُنظر إليه نوعا من الممارسة الخاصة والمقدّسة، وأفرز هذا الشعور، مع الوقت، اعتقادا راسخا بدونية هذه الشعوب وجهلها، وانعدام أي إرادة فيها، وبأن أية حركة احتجاج أو اعتراض لا يمكن أن تكون من صنعها، وإنما هي بالتأكيد غلالة تستخدمها مجموعات منافسة يحركها الحسد والغيرة لانتزاع السلطة/ الغنيمة واحتكار ممارستها ومنافعها.
لا يوجد في مفهوم هذه النخب مكان لنزاع سياسي يتعلق بحقوق أو بمصالح جماعية تخص الشعب، أو بعض شرائحه، وتتطلب الحوار من حولها، فهي لا تتصور النزاع إلا أنه مع أطراف ومجموعات من نوعها تريد أن تستأثر هي أيضا بالغنيمة، وتحرم “أصحابها” الشرعيين، بحكم الأمر الواقع، منها. أما جمهور الشعب المتحرّك على الأرض، فلا يمكن أن يكون إلا الواجهة التي تختبئ وراءها تلك المجموعات التي تنازعها على الغنيمة. ولذلك لا تشعر، وهي توجه نيرانها ضد جموع المتظاهرين والمحتجين، أنها تقاتل مواطنين، لهم حقوق ومصالح ومطالب وتطلعات، شرعية أو غير شرعية، تمكن مناقشتها، ولا حتى بشرا يستحقون الاحترام وربما الشفقة، وإنما أدوات يستخدمها خصومها لايقاع الأذى بها. فهم ليسوا مواطنين، وإنما أغبياء وجهلة ومرتزقة مدسوسون ومتآمرون، يعملون لصالح فئات مغرضة أو أجنبية.
ولا توجد وسيلة أخرى لتحييد المُغرضين والمتآمرين غير المرئيين، المحليين والأجانب، ولا قطع الطريق عليهم، ومنعهم من استخدام جهل الجمهور وتجنيدهم له في معركتهم الإجرامية، إلا من خلال تحييد الشعب نفسه ومنعه من الانجرار وراءهم، أو الانخداع بهم. ولا توجد طريقة أمثل لتحقيق ذلك سوى أخذ البريء بجريرة المذنب، والانطلاق من مبدأ تآمر الجميع وكل فرد، حتى يثبت العكس. من هنا، انزلاق كثير من هذه النظم نحو سياسة الإرهاب الذي لا مهرب منه سوى بالالتصاق بشكل أكبر بالنظام، وإظهار الولاء الدائم والآلي له، فردا فردا، وجماعة جماعة، والامتناع عن الإفصاح عن أي مطالب أو مصالح خاصة، والتماهي الكامل والعضوي مع رموز النظام وأركانه ورجاله ومؤسساته. وهكذا يصبح القائد والوطن والدولة والشعب شيئا واحدا لا ينقسم، ولا يمكن أن يقبل أي تمايز أو اختلاف. ويتحوّل أي نقد أو اعتراض، بل أي اختلاف في الرأي، إلى انشقاق وخيانة واستعداد للمشاركة في المؤامرة الخارجية، أو السقوط في أحابيلها. ومتى ما ترسّخ منطق الإرهاب في سلوك النخب الحاكمة، وتحول إلى أسلوب حكم وسياسة قائمة بذاتها، لا يبقى أي مكان لمفهوم الشعب والحقوق والحريات والدساتير والكلام والمصالح الخاصة الشرعية وغير الشرعية. هناك القائد وهناك الشعب المنصهر فيه، وكل من يرفض ذلك شريكٌ لا محالة بمؤامرات وتدخلات أجنبية. لا يؤدي مثل هذا التصور للحكم إلى امتناع أي تغيير أو إصلاح فحسب، ولكنه يجعل من الحفاظ على الوضع القائم، كما هو دائما وكما ينبغي أن يكون، معيار الوطنية ودليلها، كما يجعل من أي مطالبةٍ بتعديله برهانا لا يخطئ على تسلل فكر المؤامرة، ويبرّر، إذا احتاج الأمر، الردود الأكثر عنفا وتطرّفا، ويفتح الباب واسعا أمام الخيارات الانتحارية التي شهدنا مثالا تاريخيا مؤلما عليها في محاولة سحق الثورة السورية.
لا يوجد رد جاهز أو في متناول اليد، لا عند أحد من الشعوب ولا من القوى المنتفضة، على هذه التحدّيات ذات الطبيعة التاريخية والبنيوية المرتبطة بتحولاتٍ ونزاعاتٍ وانقلاباتٍ وتوازنات وتقلبات مستمرة منذ عقود، تشكلت من خلالها المجتمعات والنظم الإقليمية ومنظومة العلاقات الدولية التي نعرفها اليوم، والتي لا تزال تخضع أيضا لتحولاتٍ متواصلةٍ نتيجة تطور نظم الإنتاج ونظم التقنية والمعلوماتية والاتصالات والقيم والأفكار، وانعكاسات ذلك كله على حقل العلاقات الدولية وتفاعل القوى المحلية والعالمية. وهي تحدّيات تعجز الإدارات السياسية في الدول الكبرى عن مواجهتها، ما يدفع إلى نشوء ما أصبح، كما ذكرت، بمثابة دولة عميقة عولمية تتفاعل أجهزتها المتعدّدة في ما بينها داخل شبكةٍ شبه مستقلة، وتحتكر أو تكاد معظم القرارات الاستراتيجية والسيادية، بينما يتراجع الفعل السياسي إلى الصف الثاني، وينحصر أكثر فأكثر في دائرة “التدبير المنزلي” الروتيني للمسائل العادية والقريبة المدى، بما فيها التنظيم الدوري لعملية تداول السلطة وتنظيم الانتخابات ورعاية المصالح والخدمات العامة الاقتصادية والاجتماعية.
لذلك، على الرغم من التضحيات الإنسانية والكوارث التي رافقت انفجارها، والمصاعب التي لا تزال تحول دون تحقيق أهدافها العظيمة، لا أعتقد أنه كان لدى الشعوب خيار آخر للرد على تحدّي السيطرة الغاشمة لنخبة عقيمة ومفترسة متحكّمة بمصائر الشعوب غير ذاك الرد الذي ابتدعه الجمهور، في الأقطار العربية وغير العربية، أعني الخروج الجماعي والكثيف في انتفاضات شعبية عارمة، لإطاحة الأنظمة المتكلسة والفاسدة غير القابلة للإصلاح.
ولا يزال من غير الممكن تصور بديلٍ لها لتحرير طاقات الشعوب وأرواحها من البؤس والشقاء والذل الذي رافقها حقبا طويلة، من دون هذه الانتفاضات التي تقدم وحدها للشعب فرصة قلب الطاولة على النظام القائم، وانقلاب الأدوار بينهما، بحيث يتحوّل الشعب المحاصَر (بفتح الصاد)، كما بقي عقودا طويلة، إلى محاصِر (بكسر الصاد)، ومن ضحيةٍ إلى قاضٍ يحاسب النخب الحاكمة، ويفرض عليها الانصياع لإرادته، والاعتراف بمسؤوليتها والانسحاب الطوعي من الحكم، فبمقدار ما تشكل هذه الانتفاضات القابلة القانونية لولادة الشعب، بالمعنى السياسي والواحد للكلمة، تؤكد أيضا في الحركة ذاتها انهيار جدار الرعب والإرهاب الذي قام عليه تحييد الشعوب وضمان خضوعها واستسلامها حقبة كاملة. وما كان لتأجيل هذه المعركة المريرة والدامية لتحرّر الشعب إلا مضاعفة أثمان أي تغيير قادم، وتعقيد مآلاته.
لا يعني هذا بالتأكيد أننا ربحنا الحرب، حرب تحرّر الشعوب ضد قاهريها وناهبي ثرواتها وثمرات جهدها ومضطهديها، فغاية الثورة الرئيسية التي نقلت الشعوب من موقع الفريسة الخانعة التي تتنازع عليها الوحوش الضارية إلى موقع المروّض القوي لها، وولي أمرها ومصيرها، لم يكن إسقاط نظام الطغيان فحسب، وإنما، أبعد من ذلك، إقامة نظام الحرية والعدل والإخاء الذي يعيد بناء الإنسان ذاته، أفرادا ومجتمعات، فلن يحل السقوط الحتمي لهذه النظم الهمجية المشكلات المعقدة التي يطرحها تدشين حقبة جديدة من تاريخ العرب السياسي الذي لا يزال خرابا. ولن يسفر تلقائيا عن قيام نظم تمثيلية فاعلة، أو يعلن نهاية الصراع من أجل العدالة والحرية وإقامة حكومات ديمقراطية. وليس تحقيق هذه الغايات السامية والعظيمة معطىً مسبقا، ولا مضمون الحصول لأي شعب. إنه يتوقف على نجاح الأجيال الشابة التي فجرت الثورة وتبوأت، منذ الآن، مركز الطليعة في القيادة، في تمكين الشعب من استعادة واستبطان معنى التضحيات التي قدمها ومدلولها، وإعادة الحياة للدولة والسياسة ونظم الإدارة المدنية المحلية والجامعة، وإبداع الأطر الجديدة التي يحتاج إليه إحياؤها.
ولعل أهم ما قدمته ثورات الربيع العربي حتى الآن هو فك أسر الشعوب الطويل، وفتح أبواب التاريخ أمامها، وتشجيعها على أخذ المبادرة، والعمل على التصالح مع العالم الذي عزلت عنه، والانخراط من جديد في العصر الذي حرمت منه، والمشاركة الإيجابية والمبدعة في إنجازات الحضارة التي أريد لها أن تكون مستهلكةً لها فحسب. وقد أظهر أخيرا للذين فقدوا الأمل، ويئسوا من التغيير، وراهنوا على خروج العرب من التاريخ، أن الاستبداد والفساد ليسا قدرا لأي شعب، وأن الأمل الذي من دونه لا توجد كرامة ولا حرية ولا مدنية ولا حياة لا يموت.
المصدرك العربي الجديد