في الشهر الماضي، تعرضنا في صحيفة جسر لحملة انتقادات واسعة ممن باتوا يعرفون بوصف “السوركيين”، وهم فئة من السوريين المتواجدين على الأراضي التركية، ولكنهم أشد ولاء لهذا البلد، ولرئيسه أردوغان من الكثير من الاتراك، وبعضهم لا يتردد في الاعلان عن تقديم المصلحة التركية على مصلحة السوريين ذاتهم، من شاكلة ذلك القيادي في الائتلاف المعارض الذي قال لقائد المخابرات التركية في أحد الاجتماعات:” سيدي.. إن تركيا هي الأم، وسوريا هي الجنين، وعندما تصبح حياة الأم في خطر، فإن التضحية بالجنين تصبح واجبة شرعاً”.
أما سبب الهجوم العنيف من السوركيين على صحيفة جسر، فهو نشرها لثلاثة مواضيع تتعلق بطريقة تعامل الأتراك مع السوريين على نحو مباشر، بعيداً عن سياستها الاستراتيجية للتعامل مع هذا الشعب وقضيته، التي لنا عليها مآخذ كثيرة، لكننا نادراً ما تطرقنا إليها.
أول تلك المواضيع هو تعرض فتاتين سوريتين من حماة، إحداهما قاصر، للتحرش والاغتصاب، على يد الجندرمة التركية، عندما حاولتا اجتياز الحدود في منطقة تل أبيض، وحينها لم يكتفِ السوركيين من ائتلافيين وغيرهم باستنفار وسائل إعلامهم لنفي الواقعة، ثم الاعتراف بوجود شكوى من فتاة واحدة، لكن مع القول إنها “مطلقة”، ونشر صور لمحاضر فحص “جنسي”، تفيد بأن الفتاة لم “تمارس الجنس منذ أسبوع”، ممهورة بتوقيع أطباء مشهود لهم بالنزاهة، ليتبين لنا لاحقاً، أن السوركيين من فئة المقاتلين في الجيش الوطني، قد عرضوا على الاطباء فتاتين أخريين بدل الضحيتين، اللتين فوق اغتصابهما، اعتقلتا وغيبتا في سجون الجيش الوطني، ولم يسمح لأحد حتى هذا اليوم بمقابلتهما أو معرفة أي شيء عنهما.
جسر في تقريرها حول الحادثة استندت إلى صورة محضر شكوى لإحدى الفتاتين، يحمل بصمتها، إلى جانب ختم قائد أمني في الجيش الوطني، اضافة إلى شهادات شهود، لم يقبلوا أنْ تذكر اسماءهم خوفاً على حياتهم وحريتهم.
القضية الثانية كانت نشر رسالة من امرأة سورية اصيلة من مدينة عفرين، ناشدت فيها قاض في الجيش الوطني، باسمه وصفته كسوري، بالتدخل وعرض المواطن السوري الكردي خليل بكر، مختار بلدة راجو، والمغيب بدون أي تهمة في سجون الجيش الوطني السوري العامل في عفرين. وقد استجاب القاضي الأصيل لمناشدة مواطنته السورية، بقدر ما يتيح له هامش وظيفته، واستدعى الموقوف الذي يقبع في السجن، وحاول استنطاقه لعرضه على المحاكمة، وعندما عرف عتاولة السوركيين في عفرين بذلك، بادروا إلى انتزاع الرجل من يد القضاء، وزجه مجدداً في السجن، والتهجم على عائلة المختار، وتحذيرهم من الحديث للصحافة تحت طائلة فعل ما لا”تتصوره عقولهم”، واخيراً شن حملة على صحيفة جسر التي نشرت المناشدة، وأي شخص يتواصل مع العاملين فيها.
أما الحادثة الثالثة فهي حادثة اعتقال العميد الركن المنشق أحمد رحال، الذي زج في سجن تركي منذ نحو شهر ونصف، على خلفية انتقاده لهؤلاء السوركيين، وتماهيهم مع المصلحة التركية على حساب مصلحة الثورة السورية، والصاق تهمة “المس بالأمن القومي التركي” بالعميد رحال، بناء على .. وهنا الطامة الكبرى: تقارير وشهادات من اعضاء بارزين في الائتلاف والجيش الوطني السوري، ومازال العميد رحال يقبع في السجن، وسط أنباء عن تدهور حالته الصحية في اليومين الفائتين.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى حادثة رابعة تمثلت بنشر صحيفة جسر، ولأول مرة حينها، خبر ارسال تركيا لمجموعة من الجيش الوطني السوري للقتال في ليبيا، في الوقت الذي كانت تتساقط فيه بلدات ريف ريف حماة وادلب في يد قوات نظام الأسد. لم تطل تلك الهجمة والتشكيك والتخوين، وانقلبت إلى تباه وتطبيل وتزوير لتلك الخطوة من قبل قيادة الجيش الوطني والائتلاف، لأن حكومة العدالة والتنمية فيما يبدو، أرادت تلافي النقد المحتمل من المعارضة التركية لتدخلها في في ليبيا، بالقول أنها تحارب من اجل المصلحة العليا للدولة التركية، بلحم ودم السوريين وليس الاتراك.
تقودنا مجمل هذه الحوادث، وحوادث أخرى عديدة، إلى التساؤل عن الذهنية التي تقود السياسة التركية ازاء بلدنا وقضيته، وهي كما بات يبدو جلياً، ذهنية انتهازية، أصبحت فظة وعارية، وأقل ما يقال عنها أنها اتجار بمأساة شعب كامل، تحت ستار التعاطف مع مأساته غير المسبوقة، ومستغلة صدفة الجغرافيا، والظروف السلبية للنظام السياسي العربي المتهرئ، والموقف الدولي المتخاذل، المتذرع بالجهاديين من ناحية، والموقف الروسي الصيني من ناحية أخرى.
رفضت تركيا منذ بداية النزوح السوري، منح اللاجئين إليها أي صيغة قانونية، وأسبغ عليهم اردوغان صفة الضيوف، لكننا لم نسمع ولم نقرأ قط، بأن الضيف يغتصب على باب الدار إن كان صبية جميلة، ويلقى في غياهب السجن إن كان رجلاً حراً ووطنياً كأحمد رحال، كما أن المضيف لا يتعدى حدوده ويطلب التنكيل باقلية سكانية مستضعفة، لإرغامها على النزوح واحداث تغيير ديمغرافي، كما حدث في عفرين وغيرها، لتأمين حدوده من خطر ما.
الضيف أيضاً، والأحرى أن نقول هنا اللاجىء الذي هرب من الظلم والاضطهاد، لا تستغل حاجته، بعد تجويعه واذلاله، ويحول من صاحب قضية نبيلة وسامية، إلى مرتزق وقاتل مأجور يرسله المضيف أن اقتضت مصالحه، ليموت بلا كرامة.
يتخذ اردغان وحزبه، نظرية في الحكم تقول بالاعتماد على “الأخلاق الاسلامية”، ما دام تطبيق الشريعة الاسلامية غير ممكن في هذا العصر. لكن الحوادث السابقة، من اغتصاب الضيوف، وارغامهم على القتال دفاعاً عنه، وسجن الاحرار، والتنكيل بالفئة الضعيفة العزلاء، هي، ووفق نظرية الاخلاق “المحمدية” ذاتها، هي سلوكيات تدخل في نطاق العيب، وانعدام المروءة، وقلة الحياء.
لا تتصرف الدولة التركية كدولة حديثة وعصرية، بل مثل أي دولة شرق أوسطية، تدير عصابات تابعة على شكل ميلشيات مقاتلة في هذا البلد وذاك، وليس لها حلفاء محترمين، بل مأجورون ومرتزقة صغار، وقد قيل سابقاً، قل لي من هم حلفاؤك، أقول لك من أنت.
وتركيا ليست وحدها في هذا المضمار، هي في الحقيقة تمضى على خطى إيران، ذات التجربة الأعرق والأعمق، سواء في استغلال الغطاء الديني الطائفي، كحامية للمسلمين السنة، بمقابل حماية ايران للمسلمين الشيعة، أو في انشاء كيانات عسكرية على شاكلة فيلق بدر وغيره، الذي يقابله سورياً/ تركياً فيلق الشام والجبهة الوطنية للتحرير والجيش الوطني، أو إلى تفريخ السياسيين المرتزقة، حيث تعج الساحة السياسية السورية المعارضة اليوم، بمن هم على اتم الاستعداد للعب الدور الذي لعبه أبي مهدي المهندس، ونوري المالكي وغيرهم من عملاء إيران وجواسيسها، الذين احالوا العراق إلى الخراب الذي نراه، ودفع الشعب العراقي إلى التظاهر وحرق السفارات والاعلام الإيرانية، وهو مشهد سيتكرر في سوريا ضد تركيا، عاجلاً أم آجلاً، فالسياسات الفجة والمتخلفة في بسط الهيمنة والنفوذ، لا بد أنْ تقود إلى النفور العاجل، والرفض، والانتفاض أيضاً.
وإذا كان وصمنا للسياسة التركية بالعيب ينطوي على بعض التحامل والمبالغة، رغم أننا استندنا فيه إلى المنظومة الأخلاقوية التركية ذاتها، إلا أننا لا نجافي الحقيقة إطلاقاً، حين نصف ما يقوم به “السوركيين” في الائتلاف الجيش الوطني السوري بالعار، فقد وصلوا جميعاً إلى مواقعهم ومناصبهم، بفضل تضحيات نحو مليون شهيد سوري، قتلوا وهم ينشدون الحرية والكرامة لشعبهم، لكل شعبهم، وما يفعله هؤلاء السوركيين هو النقيض التام لشعار تلك الثورة العظيمة ولدماء ابطالها، فهم يبيعون كرامة السوري، ويحجزون حريته، ويرهنون قراره، مقابل مكاسب شخصية بخسة، ومناصب وهمية، ووعود مستقبلة بالسلطة، لن تتحقق إلا إذا أتمت تركيا احتلال سوريا، واعادتها “إيالة” عثمانية، وهو ما لن يحدث على كل حال، لأن السوريين الذين استنشقوا هواء الحرية، ودفعوا ثمن الكرامة من دمائهم واعمارهم، لن يصبحوا بعد ذلك رعايا للسلطان، أو قطيعاً لسلطة، مهما بلغت من عتو وقوة وصلف.
قبل أيام، وفي إطار تبادل الرأي حول موضوع العميد رحال مع معارض سوري مخضرم، مقيم في تركيا، ومن القلة من السياسيين الذين ما زالوا يحافظون على استقلالهم عن الهيمنة التركية، قال لي: “العمل من تركيا لأجله شبه مستحيل، العمل برأيي يفترض من أوربا، نحتاج الى منبر سوري مستقل وطني ديموقراطي، يدافع عن احمد رحال وغيره، لأن وضع السوريين في تركيا لا يسر، بوجود الإسلاميين المتحالفين مع العدالة والتنمية”.
حقاً؟.. هل أصبحنا بحاجة إلى معارضة خارجية، تدافع عن السوريين من تغول وهيمنة المعارضة الخارجية السابقة؟ خاصة المتحالفة مع تركيا؟
وهل يجب أنْ نفكر جدياً بنصيحة المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا فريدرك هوف، التي قال فيها إنّ على المعارضة السورية أنْ تنتقل إلى أوروبا، إذا أرادت أنْ لا تكون مجرد خادم لمصالح الآخرين!.