جسر – صحف
أسهب المفكر والكاتب السوري برهان غليون في لقاء صحفي نُشر مؤخراً، بالحديث عن مفهوم الطائفيّة وترسّباتها داخل الحياة السياسية العربيّة المعاصرة، في ضوء آخر المستجدات في عالمنا العربي، مؤكداً أنه متى ما فك الحظر عن ممارسة السياسة، تنحسر الطائفية من تلقاء نفسها، ولا يبقى من الطائفة إلا الانتماء المذهبي والديني البارد. أي تفقد الطائفة القيمة التبادلية السياسية لتحتفظ بحقيقتها الجوهرية، وهي القيمة الانتفاعية، وتلبية المطالب الروحية للأفراد.
وطرح موقع “ضفة ثالثة” على “غليون” مجموعة من الأسئلة المتعلّقة بالمفهوم وانعكاساته على المجتمعات العربية، ننقل لكم أهمها:
لماذا في نظرك لم تطرح مسألة الطائفية داخل التراث العربي الإسلامي منذ صدر الإسلام إلى الفترة الحديثة، أو بعبارة أخرى، لماذا ظلّ الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط في منأى عن التفكير بمسألة الطائفيّة، وما تحبل به من مآزق وتناقضات؟
– ميزت في كتابي “المسألة الطائفية”، الذي صدر عام 1978، بين الطائفة كانتماء لمذهب، أو دين، أو عقيدة، وباختصار، الجماعة الدينية، أو المذهبية، والطائفة بوصفها جماعة سياسية، أو فاعلًا سياسيًا لا يصارع على أرضية الدين والمذهب، ولا يدافع عن عقيدة، وإنما يوظف العصبية الطائفية، الشبيهة بالعصبية القبلية في هذه الحالة، في الصراع على السلطة السياسية. وهذا لم يحصل من قبل لأن السلطة كانت محسومة لصالح الأسرة الحاكمة، ولم تكن هنالك منافسة بين الأفراد والجماعات على احتلال مناصب السلطة. أي ببساطة لأنه لم يكن هنالك حقل سياسي مفتوح للصراع، أو لتداول السلطة، لا بين الأفراد، ولا الأحزاب، ولا أي فاعل آخر. والأسرة، أو القوة التي استولت على السلطة، تتبنى بالضرورة، كي تضفي الشرعية على سلطتها، وتحافظ على ولاء الناس، وتضمن طاعتهم وخضوعهم لها، العقيدة، أو الدين السائد، أو تفرض ديانتها. هذه كانت القاعدة. وفي الإمبراطوريتين الإسلاميتين، الأموية والعباسية، وكل ما تبعهما من سلطنات بعد ذلك، بما فيها السلطنة العثمانية، كانت العلاقات قائمة على تعايش الطوائف، وحرية الاعتقادات الدينية، والفصل الكامل بين هذه الاعتقادات الخاصة، وتبقى ممارسة السلطة حكرًا على الأسرة الحاكمة. من كان يتعرض للاضطهاد أكثر من الأديان المختلفة هي الحركات المنشقة داخل الدين السائد، أو الدين الرئيسي، والتي كانت تسمى هرطقات، أو زندقة، لأنها تبث الشك في صدقية الدين السائد وشرعية سلطاتها الرسمية.
– في العصر الحديث، نجمت الطائفية، كممارسة سياسية، أي تحويل الطائفة إلى فاعل سياسي، أو حزب، وشبه حزب، من أمرين مترابطين: الأول هو نشوء حقل مفتوح للسياسة، بما يعني تعميم الحق بالوصول إلى السلطة، أو النزاع عليها من حيث هي سلطة الشعب في الدولة الحديثة، أي جعل السياسة أمرًا عموميًا ومطلبًا وممارسة شرعيتين يمكن لكل فرد التطلع إلى المشاركة فيهما. وهذا من أبرز سمات الدولة الحديثة ومنتجاتها. والأمر الثاني المرافق له، في مجتمعاتنا، وفي غيرها أيضًا، هو أنه في الوقت نفسه الذي أصبحت فيه السياسة بضاعة عامة، حصل تحريم لها، وسدت السبل والوسائل الشرعية لتحقيق التطلع الشرعي أيضًا إلى المشاركة، أو التنافس على مناصب السلطة والمسؤولية. الطائفية، إذًا، هي نتيجة تعميم الحقوق السياسية على الأفراد، وإغلاق السبل الطبيعية لممارستها. فالصراع الطائفي يصبح هنا التعويض غير الشرعي، لكن الواقعي عن تحريم، أو إعاقة الصراع السياسي الشفاف والشرعي، مما يدفع النخب المتنافسة على السلطة إلى توظيف رصيد الجماعة الدينية، أو ثقلها، في الصراع السياسي، كما لو كانت حزبًا سياسيًا، أو بديلًا منه. وهذا النزوع يزداد طردًا مع تنامي احتكار السلطة، ومنع تداولها. وهو ما يستدعي، أيضًا، في الغالب، الرهان من قبل النخبة الحاكمة على العصبية الطائفية، أو القبلية.
– لهذا وصفت في كتابي الثاني (نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة)، الطائفية بأنها استخدام للعملة المزيفة (التي تطرد العملة السليمة المفقودة بسبب احتكارها من قبل أصحاب السلطة) في سوق سوداء نجمت هي نفسها عن تحريم السياسة والسوق الشرعية لتداولها وللتداول فيها. مما يعني أن الطائفية ليست إرثًا تاريخيًا ولا دينيًا، أي مرتبطة بهذا الدين، أو ذاك، وإنما هي علاقة شاذة تنشأ نتيجة المأزق الذي تضع فيه النظم الاستبدادية السياسة وتحرم الآخرين من حق ممارستها الشرعية. لكنها وهي تعطل السياسة لا تستطيع أن تلغي وظيفتها، أي التعبير عن تنازع المصالح والتسويات المطلوبة لتجنب القطيعة وبناء توازنات القوى التي هي جزء لا يتجزأ من منظومة الدولة الحديثة التي لا تقوم شرعيتها إلا على مشاركة الجمهور فيها. هكذا تحل الصراعات الطائفية محل الصراعات السياسية المحرمة، أو تبطنها، أو تغطي عليها. لذلك، متى ما فك الحظر عن ممارسة السياسة، وصارت من جديد نشاطًا عامًا وشرعيًا يشارك فيها الجمهور، وتتنازع فيها النخب على السلطة بحرية وشفافية، وبالسبل السياسية والوسائل الشرعية، تنحسر الطائفية من تلقاء نفسها، ولا يبقى من الطائفة إلا الانتماء المذهبي والديني البارد. أي تفقد الطائفة القيمة التبادلية السياسية لتحتفظ بحقيقتها الجوهرية، وهي القيمة الانتفاعية، وتلبية المطالب الروحية للأفراد.
هل من الممكن اعتبار أنّ الطائفيّة أضحت اليوم سلاحًا في يد الأنظمة الديكتاتورية القمعية العربيّة لإحكام قبضتها على الاجتماع العربي عن طريق الانقسامات السياسية والعصبوية والأقوامية وتفاقم الأحزاب السياسية؟
– نعم. بل هي اليوم السلاح الأمضى في تفكيك المجتمعات وتقسيمها لتقويض ثقة الجماعات والأفراد ببعضهم بعضًا، وللحيلولة دون نشوء وعي عام بالمشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع، ومن تكوين رأي عام يراقب ويسائل ويحاسب المسؤولين في مناصب السلطة العمومية عن أعمالهم وفسادهم ونهبهم للمال العام، وخيانتهم للمسؤولية العمومية.
إلى أي حد يمكن الحديث عن وجود نمط من التفكير الطائفي في تاريخ المجتمعات العربيّة خلال العصر الوسيط؟
– الطائفية، بعكس الطائفة، بدعة سياسية، أو استراتيجية سياسية، وليست عقيدة ترد على حاجات روحية. ولذلك، هي كما ذكرت للتو ظاهرة حديثة برزت مع تعميم مبدأ السياسة في إدارة الدولة والمجتمعات، وأكثر ما تبرز، كما يمكن المعاينة ببساطة كبيرة، في النظم الجمهورية لا الملكية. وحتى مفردة الطائفية لم تكن مستخدمة بالدلالات الراهنة. فقد كانت مفردة الطائفة لغويًا تعني ببساطة مجموعة من البشر، فمن الممكن الحديث عن طائفة من العرب، أو المسلمين، أو التجار، أو الصناعيين، أو طائفة من الفقراء والأغنياء، أو طائفة من المثقفين، أو طائفة من العلماء. وبالمعنى البسيط نفسه، استخدمت في القرون الوسطى عبارة ملوك الطوائف، التي يمكن أن نستخدم مكانها اليوم أمراء الحرب. ولا علاقة لها بالفرق والشيع الدينية التي كانت المصطلحات التي تستخدم للتعبير عنها: الملل والنحل والشيع والمذاهب والفرق… إلخ.
في خصوص الإسلام، هل له أية علاقة بالمفهوم، خاصّة وأنّ بعض الباحثين والمستشرقين يلحون على أنّ انقسام العرب ناتج عن غياب البنية القومية التي تُؤطّر خصوصية الإسلام وتجعله يُعالج الموضوع؟
– طرح الإسلام نفسه منذ البداية دينًا عالميًا، ولم يوجه خطابه للعرب، ولكنه خاطب الناس، وخاطب العرب، من حيث هم بشر وناس. وهو من بين الأديان القليلة التي اعترفت بالتعددية الدينية التي شرعها الاعتقاد بدين التوحيد الواحد، وأطلق على الأديان السماوية الثلاثة اسم أهل الكتاب. في ما بعد، اعترف عمليًا بالصابئة، وسمح لجميع الأديان التي وجدت قبله بالاحتفاظ بهويتها. ولم تكن في الإسلام سياسة تبشيرية، كما هو عليه الحال اليوم. لكن أكثرية الناس أسلمت في ما بعد مع الوقت، وعلى سبيل الاندماج في مدنية وحضارة سائدة ساهمت فيها، أو تطورت من صهر الثقافات والشعوب الأقدم في ظل سلطة وثقافة واحدة أصبح الإسلام، من حيث هو إطار مرجعي روحي ومدني، ثقافي ومادي، أي حضاري، الدال الشامل لها. وعندما يشار إلى الحضارة العربية الإسلامية، فالمقصود ليس الدين، وإنما هذا الإطار التاريخي الحضاري الذي أتاح تفاعل الثقافات والأديان والمذاهب المتعددة، وأنتج مدنية جديدة شاركت فيها ثقافات وشعوب شتى غيرتها وتغيرت معها أيضًا.
– وهذا ما يفسر أن المسيحيين استمروا يشكلون الأكثرية في سورية حتى الحروب الصليبية، وربما حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وأن أديانًا لا يعترف بها الإسلام رسميًا استمرت في الحياة إلى اليوم، وكذلك فرق من المذاهب الإسلامية التي خرجت على التيارين الرئيسيين السنة والشيعة، وحتى التيار الثالث الممثل بالخوارج. لكن هذا لا ينفي بالطبع الحروب الأهلية بين المسلمين وفرقهم المختلفة. وهي حروب على السلطة من وراء الصراع على الخيارات المذهبية.
ما مدى الانعكاس السلبي للطائفيّة على خصوصية المجتمع العربي في علاقته بمفهوم القومية، لا سيما أنّ الطائفيّة تُستخدم داخل بعض الأدبيات الصحافية في كونها أشبه بتيار مواجه للقومية الوطنية؟
– المعادلة في نظري معكوسة. أنا أعتقد أن استفحال المنطق الطائفي، وسيطرته على الحياة السياسية في بلدان المشرق، جاء بسبب فشل الحركات والنظم والسياسات القومية، ولا أقصد بها القومية العابرة للحدود فحسب، كالقومية العربية، التي لم تمثل دولة ونظامًا إلا خلال الفترة القصيرة لوحدة سورية ومصر في الخمسينيات والستينيات، ولكن القومية بالمعنى الوطني الداخلي. وليست الطائفية هي سبب هذا الفشل، ولكن عوامل أخرى سياسية واقتصادية وجيوسياسية واستراتيجية تتجاوز حدود سيطرة النخب المحلية في معظم الاحيان.