فيما اتجهت الأنظار، في الأسبوعين الفائتين، إلى إدلب السورية، واعتبار استعادتها هدفاً مركزياً لنظام الأسد وحليفه الروسي، تُنسج ما بين حميميم ودمشق والقاهرة والقامشلي، خيوط خطّة محكمة للإيقاع بأنقرة في فخ استراتيجي، يقلب الطاولة عليها على نحو دراماتيكي، ويُقصيها خارج المشهد السوري، وربما الإقليمي، فيما لو لم تتحرّك واشنطن بشكل جدّي لصالح تركيا، حليفتها طوال عهد الحرب الباردة.
ويلاحظ المتابع لتصريحات الجانب الروسي، وتابعه نظام الأسد، الضخ الدبلوماسي والإعلامي باتجاه تصوير الصراع الحالي كـ”حرب” بين نظام الأسد وتركيا، هدفه تغيير جوهر القضية السورية، وتحويلها من صراع شعب ضد نظام دموي إلى صراع إقليمي، وذلك بعد أن استفذت ذريعة مكافحة الإرهاب قدرتها على طمس تلك الحقيقة، وهذا ربما بات مفهوماً لدى دوائر صنع القرار في الإقليم والعالم، بل وتتشارك معطياته وتدفعه قدماً جهات فاعلة عديدة ترغب في رؤية تركيا وقد فقدت كل أوراقها السورية، بل وتحولت تلك القضية إلى عبءٍ عليها، لكن هل هذا كل شيء؟
لا، فقد توفرت في اليومين الماضيين معلومات مؤكّدة من شرق الفرات، تفيد بوجود تنسيق عالي المستوى، بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يهيمن عليها كوادر حزب العمال الكردستاني، وقوات النظام، برعاية روسية، لزجّ أعداد كبيرة من مقاتلي “قسد” في معركة كسر عظم مع تركيا، بمجرّد أن تتمكّن قوات الأسد من بلوغ حدود عفرين، أو المنطقة الجبلية المتاخمة لباب الهوى، مع وعود بمنح غطاء جوي، وبمضادّات الطائرات المحمولة على الكتف، لتخفيف وطأة تأثير الضربات الجوية التركية، ومع احتمال نشوب اشتباك جوي بين “قوات النظام” والطيران التركي، في حال اقتضى الأمر.
أما لماذا عفرين، فبعد هزيمة حزب العمال الكردستاني في ذلك الجيب الجبلي المنيع، وتهجير مئات الآلاف من السكان الأكراد، اتخذت قضية عفرين بعداً رمزياً ضاغطاً على قياداته، ليس فقط لناحية خسارة هذا المعقل الاستراتيجي، بل أيضا لضغط عشرات آلاف حمّلوا الحزب مسؤولية اقتلاعهم من ديارهم وتشريدهم ربما إلى الأبد. ومع ازدياد وتائر توطين المهجّرين هناك، فإن قيادة “الكردستاني” وكوادره مستعدون لتقديم أي ثمن لاسترجاع هذه المنطقة من غريمهم التاريخي، الدولة التركية.
وسيكون فتح معركة عفرين، التي تحظى بتعاطف عالمي واضح، مدعوماً بقوى شعبية ورسمية واسعة، تعجز أنقرة عن مواجهتها والتصدّي لها جميعها، خصوصا في ظل الجفاء المعلن مع واشنطن، والمماحكة المتواصلة مع أوروبا، بل إن أطرافاً إقليمية لن تتوانى عن دعم القوات الكردية بكل ما يلزم، لكسر شوكة أنقرة هناك. ومعلومات الكاتب تشير إلى حصول الأكراد فعلياً على وعود من هذا النوع، في زيارة رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية، إلهام أحمد، ورفاقها، أخيرا، إلى القاهرة.
وفي وضع مثالي، كانت أنقرة تطمح إلى مقايضة وجودها العسكري في الشمال الغربي من سورية بإنهاء الكيان الكردي شرق الفرات، وكانت الأمور تسير بشكل حسن مع موسكو، ابتداء من فسح المجال الجوي لتنفذ عملية غصن الزيتون في عفرين، مروراً بالسماح لها بالحضور بشكل ملموس في أرياف إدلب وحماة وحلب، تحت مسمى نقاط المراقبة الشهيرة، وصولاً إلى عملية “نبع السلام” التي انتزعت من خلالها كلاً من تل أبيض ورأس العين. ووطّدت هناك ما ظنّته تحالفاً استراتيجياً مع الروس، بعد تخلّي الأميركان عن هذا الملف كليّة، من دون أن تحسب أنقرة حساباً على الإطلاق لانقلاب الكرملين عليها، وتحويل كل تلك الأوراق التي تمتلكها إلى أوراق ضدها، سواء من خلال دعم الأكراد وتقويتهم، بدل الضغط لتفكيك كيانهم، أو رفض وجود الجيش التركي على الأرض السورية، بذريعة استعادة نظام دمشق عافيته، وقدرته على بسط نفوذه على كامل الأراضي السورية، وتخييرها أخيراً فيما يخص ورقة اللاجئين التي طالما لوّحت بها، بين أن تدخلهم إلى تركيا وتتحمّل عبئهم، وتريح نظام الأسد المنهك منهم، وهم المعارضون الأكثر جذريةً له، وبين أن تتركهم فريسة لهذا الأخير، ليعيد “تشكيلهم” كما يشاء، بعد فقدانهم شبر الأرض الأخير الذي يستطيعون العيش عليه مع الحفاظ على موقفهم المعارض.
أما كردياً، فإن عفرين هي بمثابة الهدية التي سيمنحها الروس لقيادة حزب العمال الكردستاني (في جبال قنديل) مقابل الخضوع التام، ليس لناحية الحل السياسي الذي تقترحه، أو لناحية دمج قوات “قسد” في جيش النظام وحسب، بل وأيضاً، وفي المقام الأول، لإعادة صياغة علاقتهم بواشنطن وقواتها في شرق سورية، تلك العقبة الكأداء التي تؤرّق موسكو، وتمنعها من فرض رؤيتها النهائية في سورية.
وفق هذا التصور، سيكون ثمّة جيب معزول في غرب إدلب وشمالها، يهيمن عليه قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، أبو محمد الجولاني، وصحبه من المتشددين. وهؤلاء الذين لا تكفّ موسكو عن التذرع بمحاربتهم والقضاء عليهم، في حربها على الشعب السوري، سيتم الاحتفاظ بهم، هكذا ببساطة.
سيحتاج نظام الأسد لمركز المحافظة، مدينة إدلب، لإعادة أجهزته إليها، وإعلان فرض السيادة مجدّداً،
لا، فقد توفرت في اليومين الماضيين معلومات مؤكّدة من شرق الفرات، تفيد بوجود تنسيق عالي المستوى، بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يهيمن عليها كوادر حزب العمال الكردستاني، وقوات النظام، برعاية روسية، لزجّ أعداد كبيرة من مقاتلي “قسد” في معركة كسر عظم مع تركيا، بمجرّد أن تتمكّن قوات الأسد من بلوغ حدود عفرين، أو المنطقة الجبلية المتاخمة لباب الهوى، مع وعود بمنح غطاء جوي، وبمضادّات الطائرات المحمولة على الكتف، لتخفيف وطأة تأثير الضربات الجوية التركية، ومع احتمال نشوب اشتباك جوي بين “قوات النظام” والطيران التركي، في حال اقتضى الأمر.
أما لماذا عفرين، فبعد هزيمة حزب العمال الكردستاني في ذلك الجيب الجبلي المنيع، وتهجير مئات الآلاف من السكان الأكراد، اتخذت قضية عفرين بعداً رمزياً ضاغطاً على قياداته، ليس فقط لناحية خسارة هذا المعقل الاستراتيجي، بل أيضا لضغط عشرات آلاف حمّلوا الحزب مسؤولية اقتلاعهم من ديارهم وتشريدهم ربما إلى الأبد. ومع ازدياد وتائر توطين المهجّرين هناك، فإن قيادة “الكردستاني” وكوادره مستعدون لتقديم أي ثمن لاسترجاع هذه المنطقة من غريمهم التاريخي، الدولة التركية.
وسيكون فتح معركة عفرين، التي تحظى بتعاطف عالمي واضح، مدعوماً بقوى شعبية ورسمية واسعة، تعجز أنقرة عن مواجهتها والتصدّي لها جميعها، خصوصا في ظل الجفاء المعلن مع واشنطن، والمماحكة المتواصلة مع أوروبا، بل إن أطرافاً إقليمية لن تتوانى عن دعم القوات الكردية بكل ما يلزم، لكسر شوكة أنقرة هناك. ومعلومات الكاتب تشير إلى حصول الأكراد فعلياً على وعود من هذا النوع، في زيارة رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية، إلهام أحمد، ورفاقها، أخيرا، إلى القاهرة.
وفي وضع مثالي، كانت أنقرة تطمح إلى مقايضة وجودها العسكري في الشمال الغربي من سورية بإنهاء الكيان الكردي شرق الفرات، وكانت الأمور تسير بشكل حسن مع موسكو، ابتداء من فسح المجال الجوي لتنفذ عملية غصن الزيتون في عفرين، مروراً بالسماح لها بالحضور بشكل ملموس في أرياف إدلب وحماة وحلب، تحت مسمى نقاط المراقبة الشهيرة، وصولاً إلى عملية “نبع السلام” التي انتزعت من خلالها كلاً من تل أبيض ورأس العين. ووطّدت هناك ما ظنّته تحالفاً استراتيجياً مع الروس، بعد تخلّي الأميركان عن هذا الملف كليّة، من دون أن تحسب أنقرة حساباً على الإطلاق لانقلاب الكرملين عليها، وتحويل كل تلك الأوراق التي تمتلكها إلى أوراق ضدها، سواء من خلال دعم الأكراد وتقويتهم، بدل الضغط لتفكيك كيانهم، أو رفض وجود الجيش التركي على الأرض السورية، بذريعة استعادة نظام دمشق عافيته، وقدرته على بسط نفوذه على كامل الأراضي السورية، وتخييرها أخيراً فيما يخص ورقة اللاجئين التي طالما لوّحت بها، بين أن تدخلهم إلى تركيا وتتحمّل عبئهم، وتريح نظام الأسد المنهك منهم، وهم المعارضون الأكثر جذريةً له، وبين أن تتركهم فريسة لهذا الأخير، ليعيد “تشكيلهم” كما يشاء، بعد فقدانهم شبر الأرض الأخير الذي يستطيعون العيش عليه مع الحفاظ على موقفهم المعارض.
أما كردياً، فإن عفرين هي بمثابة الهدية التي سيمنحها الروس لقيادة حزب العمال الكردستاني (في جبال قنديل) مقابل الخضوع التام، ليس لناحية الحل السياسي الذي تقترحه، أو لناحية دمج قوات “قسد” في جيش النظام وحسب، بل وأيضاً، وفي المقام الأول، لإعادة صياغة علاقتهم بواشنطن وقواتها في شرق سورية، تلك العقبة الكأداء التي تؤرّق موسكو، وتمنعها من فرض رؤيتها النهائية في سورية.
وفق هذا التصور، سيكون ثمّة جيب معزول في غرب إدلب وشمالها، يهيمن عليه قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، أبو محمد الجولاني، وصحبه من المتشددين. وهؤلاء الذين لا تكفّ موسكو عن التذرع بمحاربتهم والقضاء عليهم، في حربها على الشعب السوري، سيتم الاحتفاظ بهم، هكذا ببساطة.
سيحتاج نظام الأسد لمركز المحافظة، مدينة إدلب، لإعادة أجهزته إليها، وإعلان فرض السيادة مجدّداً،
لكن الجيب الجهادي سيبقى بنكاً للأوراق الاستراتيجية التي يهدّد بها خصومه، وقبل كل هؤلاء، يُخضع بها الشعب السوري، واستخدامها سيكون شبيهاً باستخدام سجن صيدنايا الذي كان يحتجز فيه الجهاديين، ويطلقهم منه، وفق ما تقتضيه مصالحه وصراعاته، لكن هذه المرّة على نحو موسع، ومع شريك دولي، هو الرئيس الروسي بوتين.
إلى ذلك، في مطلع سنة 2021 ثمّة موعد جديد لانتخابات رئاسية في سورية، ويريد الأسد وداعموه أن تجري وقد فرض سلطته على كل أراضي “الجمهورية العربية السورية”، ليستعيد الشرعية بشكلها الرمزي، على أن يتكفل الحلفاء بتعويمه فعلياً بعد ذلك، حتى لو بقيت القوات الاميركية في المناطق التي تسيطر عليها في شرق سورية، فهي تهيمن على أجزاء من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، لكن ليس بينها أي من مراكز المحافظات الثلاث. وبالتالي، من الناحية الدستورية، يمكن إجراء انتخابات عامة وشاملة لمن بقي داخل البلاد. أما اللاجئون الذين يقارب عددهم نحو ثلث عدد السكان، فسوف يتم إهمالهم كلياً أو جزئياً. وفي تلك الأثناء، سيكون الطرف التركي مجرّد طرف خارجي، لا يملك فعلياً أي أداة في الداخل السوري، وسيتم التفاوض معه حينها انطلاقاً من ذلك الوضع، ربما لمنح المعارضة السورية المرتبطة به بعض المزايا لاحتوائها، بلا توقعات أو أوهام كبيرة.
الخيارات المطروحة على أنقرة في هذه المرحلة للحفاظ على مصالحها الجيوسياسية ثلاثة فقط: خوض مواجهة عسكرية وسياسية شاملة غير مضمونة النتائج، إعادة صياغة العلاقة مع موسكو بواقعية، الاتجاه غرباً من جديد، وإلى واشنطن تحديداً. وفي جميع هذه السيناريوهات المطروحة، ثمّة تنازلات، على الرئيس التركي، أردوغان، أن يتمتع بالمرونة والحكمة لتقديمها بشكل متناسب، قبل فوات الأوان.
إلى ذلك، في مطلع سنة 2021 ثمّة موعد جديد لانتخابات رئاسية في سورية، ويريد الأسد وداعموه أن تجري وقد فرض سلطته على كل أراضي “الجمهورية العربية السورية”، ليستعيد الشرعية بشكلها الرمزي، على أن يتكفل الحلفاء بتعويمه فعلياً بعد ذلك، حتى لو بقيت القوات الاميركية في المناطق التي تسيطر عليها في شرق سورية، فهي تهيمن على أجزاء من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، لكن ليس بينها أي من مراكز المحافظات الثلاث. وبالتالي، من الناحية الدستورية، يمكن إجراء انتخابات عامة وشاملة لمن بقي داخل البلاد. أما اللاجئون الذين يقارب عددهم نحو ثلث عدد السكان، فسوف يتم إهمالهم كلياً أو جزئياً. وفي تلك الأثناء، سيكون الطرف التركي مجرّد طرف خارجي، لا يملك فعلياً أي أداة في الداخل السوري، وسيتم التفاوض معه حينها انطلاقاً من ذلك الوضع، ربما لمنح المعارضة السورية المرتبطة به بعض المزايا لاحتوائها، بلا توقعات أو أوهام كبيرة.
الخيارات المطروحة على أنقرة في هذه المرحلة للحفاظ على مصالحها الجيوسياسية ثلاثة فقط: خوض مواجهة عسكرية وسياسية شاملة غير مضمونة النتائج، إعادة صياغة العلاقة مع موسكو بواقعية، الاتجاه غرباً من جديد، وإلى واشنطن تحديداً. وفي جميع هذه السيناريوهات المطروحة، ثمّة تنازلات، على الرئيس التركي، أردوغان، أن يتمتع بالمرونة والحكمة لتقديمها بشكل متناسب، قبل فوات الأوان.
العربي الجديد ١٦ شباط/فبراير ٢٠٢٠