جسر: رأي:
السؤال المكرّر بين السوريين اليوم هو: بعد كل شيء، ماذا يمكن للمعارضة السورية أن تفعل؟ وهل يمكنها أن تفعل شيئاً آخر سوى الدخول في بازار السياسة، على الرغم مما يبدو من ضعف رأسمالها فيه؟ أليس بؤس حال المعارضة السورية اليوم هو مجرّد انعكاس لاختلال ميزان القوى لصالح نظام الأسد وحلفائه؟ وهل يمكن أن توجد سياسة متحرّرة من ثقل ميزان القوى؟
يبدو للوهلة الأولى أن ما تقوم به اليوم المعارضة السورية الرسمية (المعارضة التي يعترف بها المجتمع الدولي) هو المسار السياسي الممكن، وربما الوحيد، أمام الساعين إلى تغيير نظام الحكم السياسي وآلياته في سورية، لصالح علاقةٍ أكثر انفتاحاً وتوازناً مع المجتمع، غير أن التمعّن في الحال يبين أن المسار الذي دخلته المعارضة الرسمية ما كان له إلا أن يكون مساراً متراجعاً، يميل إلى الفشل في تحقيق ولو حدوداً دنيا من التغيير الذي أراده السوريون، ذلك لأنه يقوم على التسليم بأن ميزان القوى الأساسي عسكري، وهذا يعني أن السقف السياسي للمعارضة ينخفض ويتراجع مع تراجع المسار العسكري. وعليه، مع التقدّم العسكري للنظام، كانت المعارضة الرسمية تتراجع سياسياً، وترضى بما لم تكن ترتضيه من قبل، وتدخل في قنوات تفاوض منخفضة السقف أكثر فأكثر.
في المقابل، لم يُخضع النظام نفسه لهذا الربط أو لهذه الآلية، ففي وقتٍ تراجع فيه النظام عسكرياً إلى حدودٍ اضطرته إلى الاستعانة بقوة عظمى في نهاية الشهر التاسع من عام 2015، لم يسمح لهذا الاختلال العسكري بأن يغير في ثباته السياسي في وجه مطالب المعارضة. وقامت حسابات النظام على فكرة تقول إنه كان سيفقد تماسكه، لو تراجع سياسياً أمام المعارضة، ليس فقط لأن تراجعه السياسي كان سيعطي إشارة ضعفٍ لجمهوره، وكان يمكن أن يفجر خلافات داخلية فيه، ويضعف من قوة رهان حلفائه عليه، بل أيضاً لأن التراجع السياسي كان سيعطي أثراً معاكساً على الضفة المقابلة، فيزيد من تماسك المعارضة، ويقوي رهان القوى الداعمة لها. في كل حال، حافظ النظام، على خلاف المعارضة، على “خطه” السياسي، مراهناً دائماً على تشتت المعارضة وتعثرها، وأيضاً على ثبات دعم حلفائه. ومن المهم أن يضاف هنا أن التقدم العسكري الذي حققته الفصائل العسكرية الإسلامية (لا تشكل المعارضة السياسية الرسمية قيادة لها، ولا تمون عليها)، شكل دعماً غير مباشر للمعارضة الرسمية، ولكنه، في الوقت نفسه، أضعف سياسياً المعسكر المعادي لنظام الأسد، أولاً، من حيث بروز الوجه الإسلامي لهذا المعسكر أكثر فأكثر، وما لهذا الأمر من أثر سلبي على الرأي العام في الدول الغربية المؤثرة، وثانياً من حيث بروز ارتهان هذه الفصائل للخارج (تركيا ودول الخليج أساساً)، وما لهذا من أثر سلبي على الرأي العام السوري.
التفارق المتحدث عنه هنا بين فصائل عسكرية إسلامية ومعارضة سياسية رسمية، سمح للمجتمع الدولي الذي ما فتئ يتحدث بالحل السياسي، أن يتخذ استراتيجية ذات شقين، الأول عسكري غايته النهائية التخلص من الفصائل الإسلامية تباعاً، فتجاهل حملات تصفية هذه الفصائل، وتساهل مع استخدام أسلحة محرمة دولياً في تصفيتها. والثاني سياسي يقضي بالعمل على حل سياسي منزوع الدسم، يفضي إلى مشاركةٍ سياسيةٍ ما للمعارضة الرسمية، مشاركةٍ بحدود ضيقة لا تؤثر فعلاً على طبيعة النظام.
ليس مفاجئاً أن تجد المعارضة الرسمية نفسها محكومةً لهذا المسار التراجعي، فقد انفكّت مبكراً عن جمهور الداخل، وخسرت وزنها المحلي، ولم يعد لها من وزن سوى اعتراف المجتمع الدولي بها، وباتت بالتالي جزءاً من آليات عمل المجتمع الدولي لحل الموضوع السوري. وعليه، فإن قبول المجتمع الدولي بتخفيض سقف التسوية يُلزم هذه المعارضة بالقبول أو بالاستقالة لتحل محلها معارضة تقبل بما يقبله المجتمع الدولي، وتنال بالتالي اعترافه. غير أن المعارضة السورية ليست مرهونة لهذا المسار الرسمي، ومن الخطأ أن تبقى مرهونة له. من الضروري وجود تمثيل سياسي سوري يستند في عمله ليس إلى ميزان القوى العسكري الذي مال إلى صالح النظام، بل إلى ميزان الحقوق الذي يميل إلى صالح المعارضة. والكلام عن التمسّك بميزان الحقوق ليس تطرفاً في الكلام، ولا مطاولة للمستحيل، فميزان الحقوق استقرّ في لحظة من مسار الصراع السوري على “بيان جنيف 1” الذي كان في حينها (نهاية يونيو/ حزيران 2012) أقل مما يطمح له معارضو النظام، ولكن يمكن اعتباره مدخلاً أو نقطة بدء عادلة لا يجوز التنازل عنها، باسم ميزان القوى.
لا يعني ما سبق أن المطلوب هو بروز معارضة متطرّفة أو تطهرية لا تدخل في التفاوض مع النظام، ولا تقبل بأقل من إسقاطه، على العكس، النظام السوري يمثل حزمة مصالح واسعة في المجتمع السوري، ولا يمكن أن يقوم نظام سياسي سوري ما لم يأخذها في الاعتبار. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن أن يقوم نظام سياسي سوري بحدود معقولة من العدالة السياسية والاجتماعية، من دون تحرير الدولة السورية من قبضة سلطة طغمة الأسد. على هذا، ينبغي إقامة الفرق قولاً وفعلاً بين كتلة النظام، بكل جوانبها، الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والسياسية، وطغمة النظام التي تحيل هذه الكتلة إلى مرتكز لها لتدمير “الكتلة” المعارضة للنظام. بكلام آخر، على المعارضة أن تكون حازمةً ضد طغمة النظام، ومرنة مع كتلته.
يمكن لهذه المقاربة أن تؤسس لبناء معارضة سورية تتبنّى منظوراً سياسياً يسعى إلى استيعاب مصالح القطاع الواسع من الشعب الموزّع على ضفتي الصراع، مع الثبات على التفاهمات الدولية التي تضمن تفكيك قبضة طغمة الأسد عن الدولة السورية. ومن الراجح أن يلعب الوجود المنظم والمثابر لمثل هذه المعارضة دوراً في حركة موازين القوى في غير مصلحة النظام.
من ناحية أخرى، وجود هذه المعارضة السياسية المنظمة هو نوع من الدعم غير المباشر للمعارضة الرسمية الحالية، وكما أنها تشكل بديلاً جاهزاً يفرض الاعتراف به، حين تصل المعارضة الرسمية إلى نقطة الفشل الأكيد، هذا فضلاً عن أنها تبقى، في هذه الأزمنة المكسورة، رصيداً معنوياً للشعب السوري المخذول.
(العربي الجديد)