رشيد الحاج صالح
يشعر عدد كبير من السوريين المعارضين بإحباط ممزوج بحسرة عندما يفكرون بمعارضتهم الرسمية، لدرجة أنه ينظرون إليها بوصفها عقبة كأداء لا تختلف كثيرا عن النظام الذي ثاروا عليه. والمقال تحليل لطبيعة المشكلات التي تعاني منها المعارضة السورية الرسمية- ممثلة بالائتلاف- والمفارقات التي يراها السوريون في معارضتهم.
تعود أزمة المعارضة السياسية السورية، في أحد جوانبها، إلى أن غالبية أحزابها لا تنحدر من أحزاب برلمانية ليبرالية قامت الانقلابات العسكرية بتحطيمها ومنع تطورها. فالمدقق في أصول هذه المعارضة يجد أنها تعود إلى أحزاب ثورية شعبوية لا تحمل تقديراً كبيراً للديمقراطية والعمل السياسي، مثلما لجات – تاريخياً – إلى مواقف تتصف باللاعقلانية السياسية (تأييد الانقلابات العسكرية، ترك القياد السياسية للعسكر، التركيز على القضايا الأيديولوجية).
وبالعودة إلى تاريخ سوريا السياسي كان العسكر أقوى من السياسيين، فمشروع الوحدة مع مصر كان مشروع العسكر، كما أن العسكر هم من قام بانقلاب عام 1963 واستدعى البعثيين ليكونوا موظفين عندهم. مشكلة عدم قدرة السياسيين على السيطرة على العسكر أو تحييدهم سياسيا مشكلة تاريخية في سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال. وهي مشكلة عانت منها المعارضة بعد 2011، وإذا أردنا الدقة لقلنا تهرّبت منها.
وعلى الرغم من أن تلك المعارضة تنبهت مبكرا لمسألة تبني الديمقراطية إلا أن ذلك التبني أتى في إطار محاججة النظام الأسدي والتمايز عنه وليس في إطار الإيمان بالديمقراطية بذاتها. بهذا المعنى تتحول المعارضة اليوم إلى جزء من الأزمة عبر إعادة تدوير نفسها بوصفها طرفاً يريد أخذ السلطة السياسية، حتى لو كانت تعاني من ضعف في الثقافة السياسية الديمقراطية، وحتى لو كانت لا تختلف عن النظام في تفكيرها السياسي العميق.
وعلى العموم يمكن القول إن مشكلة النخب السياسية المعارضة، وعدم خبرتها، ولا أخلاقيتها سياسيا، ليست خاصة بالمعارضة السورية بالتأكيد، حتى أن العلوم السياسية المعاصرة تقول إنها كانت مشكلة المشكلات في زمن الثورات، بدءا من الثورة الفرنسية ووصلا إلى الانتفاضة السودانية قبل عامين. حتى أننا يمكن أن نوجز ما يدور في السودان اليوم بأنه صراع سياسي يدور – بشكل أساسي- بين النخب السياسية وممثلي العسكر.
مشكلة عدم قدرة السياسيين على السيطرة على العسكر أو تحييدهم سياسيا مشكلة تاريخية في سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال. وهي مشكلة عانت منها المعارضة بعد 2011، وإذا أردنا الدقة لقلنا تهرّبت منها
يوجز السوريون المعارضون مفارقات معارضتهم السياسية اليوم بست مفارقات:
الأولى، أنها أضعف الأطراف السياسية الفاعلة على الأرض السورية. حتى الفصائل المسلحة التي تتبع لها هناك حديث طويل عن عدم قدرة الائتلاف على السيطرة وضبطها.
الثانية، أن وضع حقوق الإنسان والعدالة يكاد يتشابه في مناطقها ومناطق النظام. ولعل هذا ما يفسر عدم وجود رغبة لدى الأعداد الكبيرة من السوريين المقيمين في دول الجوار بالعودة إلى بيوتهم التي تقع ضمن سيطرة المعارضة.
الثالثة، أن السوريين لا يعرفون ماذا يدور في أروقة تلك المعارضة. وهي صفة تشتهر بها الأنظمة التسلطية على العموم، من حيث إنها تحيط أفعالها، وخلفية قراراتها، بنوع من السرية حتى لا يسأل الناس، كيف؟ ولماذا؟ ومن المسؤول؟. حتى تصريحاتهم حول إصلاح الائتلاف لا تقدم الكثير للسوريين، فهي عامة وأقرب للشعارات الرنانة، وتذكر بوعود بشار الأسد حين تولى السلطة في سوريا.
الرابعة، أن كبار شخصيات المعارضة مهتمون بما يدور في ذهن ممثلي القوى الدولية أكثر بكثير من اهتمامهم بأوضاع السوريون ومشاغلهم، وهي صفة يشتهر بها النظام الأسدي تاريخيا.
الخامسة، أنها معارضة ” تتعيش” من العمل السياسي. وتعد هذه المشكلة من أكبر مشكلات العمل السياسي بحسب ماكس فيبر الذي توسع في شرح سلوكيات عدد كبير من النخب السياسية التي لا تعمل في السياسة كفئات “محترفة” لها أهداف وتحمل قيماً وطنيةً وأخلاقية، بل كفئات تعمل بالسياسة، بدافع من الحصول على الأموال والمزايا والمناصب، ويكاد ينحصر تفكيرها بالسياسة بتلك المكاسب.
السادسة، ليس هناك أي تأثير يذكر أحدثته شخصيات معارضة، عرفت بنزاهتها وتضحياتها وحنكتها السياسية. فدخول شخصيات يجمع السوريون على حبها واحترامها من قبيل: ميشيل كيلو ورياض سيف وغيرهم، إلى تلك المؤسسات المعارضة، لم يمكنهم من إحداث فارق يذكر، فغادروها محبطين.
وهنا يمكننا تحديد ثلاث مشكلات نعتقد أن المعارضة السورية عانت وتعاني منها:
هاجس السلطة:
فالمعارضة الرسمية، منذ أن أسست أيام المجلس الوطني السوري، أنشأت نفسها بوصفها طرفاً عليه أن يستعد لتسلم السلطة من النظام الأسدي، وأن هذا الانتقال قادم لا محالة، وأن القوى الدولية هي من سيساعدها في هذه المهمة. ولذلك، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم تعد تهتم باستقلال قرارها، ورهنت نفسها لحسابات تلك القوى. وهذا مأزق لا يبدو أنها تفكر حتى بالخروج منه، بل على العكس ما زالت تجري وراءه، وتعتقد أن لا حلول إلا به، وهو ما يفسر التبريرات التي نسمعها من ممثلي اللجنة الدستورية – على سبيل المثال- حول الاستمرار في تلك اللجنة على الرغم من عدم تحقيق أي شيء، وعدم وجود إمكانيات تلوح في الأفق للتوصل إلى دستور يرضي السوريين.
تهميش الشارع السوري:
طبعا من المفهوم أن المعارضة قبل عام 2011 لم يكن بإمكانها أن تكون شعبية، بمعنى تعتمد على الناس وتخاطبهم في كل القضايا وتشركهم في كل شاردة وواردة، وأن هذا أمر دونه الهلاك. أما استمرار هذا التهميش بعد تشكلها رسميا في تكتلات وكيانات في الخارج، وإدارة ظهرها للشعب السوري فيعد أمراً غيرَ مقبول، ويدل على ضعف ثقافتها السياسية. فعلى الرغم من ” تحرير” أكثر من 80% من مساحة سوريا في عامي 2012/ 2013 فإن وجود الائتلاف السوري، والمجلس الوطني من قبله في الداخل كان ضعيفا. وكاد أن يقتصر على إرسال مواد إغاثة وبعض المساعدات، أي أنه لم يكن وجوداً سياسياً فعالاً. ومن الأمثلة التي يتحسر عليها أهل الرقة – مثلا- ترك الائتلاف للمجلس المدني الذي تشكل في الرقة وحيدا حتى قامت الفصائل المسلحة بتصفيته، (مصير بعضهم ما زال مجهولا حتى الآن) وكانت حجة رئيس الائتلاف آنذاك أن التركيز على دمشق أولى.
مشكلة العسكرة:
في أزمنة الثورات تلجأ الكيانات المعارضة إلى تشكيل كيانات عسكرية تتبع لها، وتؤثر من خلالها على أرض الواقع. إلا المعارضة السورية لم يكن لها مثل هذه الخطط، وهذا يعود إلى أنها اعتقدت أن سقوط النظام قرار سياسي دولي. أما الكيانات العسكرية الحالية فيمكن القول إنها لا تتبع كلية للائتلاف أولا، وليس لها أي علاقة بما خرج السوريون من أجله ثانيا، وان وجودها مرتبط أصلا بتفاهمات دولية ثالثا.
أما المشكلة في “الإصلاحات” الجزئية الأخيرة التي قام بها الائتلاف أنها مثل قلتها، ولا تشير إلى أن الائتلاف مدرك لمشكلته، بقدر ما تشير إلى أنه يريد الاستمرار في النهج السابق. حتى أن المعلومات حول تلك التغيرات شحيحة، وأن هناك من يصف تلك “الإصلاحات” بأنها تتعلق بخلافات
“شللية”، أو تغييرات شكلية، أكثر من كونها إصلاحات حقيقية.
من الواضح أن تضحيات السوريين لم تكلل بمعارضة تكون بمستوى تلك التضحيات. ومن الواضح أيضا أن مأساتهم مرشحة للاستمرار أكثر إذا بقيت المعارضة على ما هي عليه.
المصدر: تلفزيون سوريا