جسر: ثقافة:
في بقعة صغيرة على نهر الفرات إلى الجنوب من الحدود السورية التركية، وفي موقع غير بعيد عن سد 16 تشرين، جرت دراسات أثرية لتؤكد أن موقع تل حالولة أحد أقدم مواقع السكن في وادي الفرات والذي يعود إلى حوالي 8500 قبل الميلاد، حيث اكتشفت البعثة الأثرية الإسبانية أقدم سنبلة قمح مزروعة من قبل الإنسان في العالم.
وقد رافق هذه الاكتشافات مخلفات أثرية كثير تدل على تحول الإنسان وانتقاله من صيد الثيران والخنازير وجمع الثمار والتقاطها إلى الزراعة المنظّمة وتدجين الحيوانات كالكلاب في البداية ثم الأغنام والأبقار والماعز والخنازير، وبشكل عام فإن موقع حالولة يُعد النموذج الأكمل لدراسة وفهم نشوء الزراعة والرعي في العالم، كما يكتسب هذا الموقع أهمية خاصة لما قدمه من معطيات حول التركيب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في ذلك العصر (الألف التاسع قبل الميلاد).
ونتيجة لهذه الاكتشافات الهامة فقد توجّهت أنظار الآثاريين إلى أهمية هذه المنطقة مما زاد من عمليات الكشف عن المواقع الزراعية الأولى في سورية، وفي حوض نهر الفرات الأوسط بالتحديد، بالإضافة إلى مدى التطور الذي قام به في عملية بناء المنازل من أجل توفير حياة أفضل له، إذ بنى إنسان تلك الفترة غرف البيوت بطريقة منتظمة وقام بالأعمال المنزلية في غرفة الطبخ، حيث يذكر موليس رئيس البعثة الأثرية في الموقع أن المطبخ تضمن أماكن للطبخ وتخزين المواد الغذائية والمحاصيل. كما ظهرت أيضاً في الموقع دلائل جديدة حول المنتوجات الزراعية في فترة الاستقرار التي عاشها الإنسان في حالولة، حيث لم يكتف بزراعة القمح فقط، بل زرع أيضا العدس والشعير والكتان، كما دجن الحيوانات كالأغنام والأبقار والماعز والخنازير.
لقد كان إنسان حالولة شخصا اجتماعيا، إذ استطاع أن يتواصل مع المناطق المحيطة به، ويتبادل السلع بالمقايضة مع أبناء الثقافات الأخرى، كما قدّم وغيّر هذا الموقع الكثير من المفاهيم المتعلقة بالشعائر الدينية، فبعد اكتشاف ما يقارب من 120 مقبرة، جاءت المعلومات لتؤكد أن الدفن فيها كان يلقى احتراما كبيرا، حيث أبقى الإنسان فيها موتاه في منازلهم، وقام بدفنهم فيه بجانب أحد الجدران وبشكل أفقي، وهذا يدل على الحفاظ عليهم ليبقوا على تواصل مع أحاسيسهم، إن صح التعبير. كما كانوا يقومون بدفن المواد التي كان يستخدمها المتوفى من حلي أو أسلحة أو أواني ومواد ثمينة كالنحاس والزمرد والمواد الأخرى في اعتقاد منهم أنه سيستخدمها في العالم الآخر، وبيّنت المعطيات التاريخية أن هذه المواد الثمينة ليست من نتاج المنطقة نفسها، وإنما كانت مجلوبة من مناطق بعيدة (على الأرجح أن تكون من مناطق شمال طوروس). كما كشفت البنى المعمارية في حالولة وجود سور يحيط بالموقع والذي ربما قد تم إنشاؤه من أجل درء خطر فيضان نهر الفرات القريب، بالإضافة إلى أن أرضيات وجدران المنازل كانت مطلية بالكلس.
هذا الموقع الذي عرف زراعة أول سنبلة قمح في العالم، كان أيضا أول قرية تتحرر من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بعد أن أطلقت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” حملتها العسكرية من منبج في حزيران عام 2016.
سوريا وعبر تاريخها الطويل أثْرت وأثّرت في العالم القديم، لكن ما قدمته من ثقافات سبقت المرحلة التاريخية أو مرحلة الكتابة هو الأكثر أهمية، كما أن الأبحاث الأثرية تدل على أن سوريا هي موطن الزراعة الأول الذي انطلقت منه إلى كل العالم.