جسر – صحافة
يكاد لا ينقضي أسبوع من دون أن تنشئ مجموعة من السوريين، غرفة في وسائل التواصل الاجتماعي، لإطلاق جسم أو هيئة أو نشاط سياسي ما، ويخوض المنخرطون فيها نقاشات محتدمة، هدفها الخروج من حالة الركود والاستعصاء السياسي المعارض. ولا تفوت المبادرين الإشارة إلى أن هذه الخطوة سيليها اجتماع “فيزيائي” فيما لو حصل اتفاق مبدئي، لكن ذلك اللقاء الفيزيائي المنشود لا يحدث، وتتحول الغرف إلى مساحة لتداول الأخبار والتعليق عليها، إلى حين ظهور مشاريع وغرف جديدة يتفرق إليها الأعضاء، الأمر الذي يدعو للتساؤل: هل أن ممارسة السياسة “افتراضياً” هي ما يُفشل تلك المشاريع لتقصر بها عن الوصول إلى “الفعل”؟ أم أن الظاهرة ليست سوى عرضٍ لقصورٍ أصليٍ في أساس وتقاليد الحياة العامة والسياسية السورية؟
إن الأثر غير المنكر لشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، في الثورة السورية، نجم في الأساس عن فعل ملموس على أرض الواقع هو “المظاهرة”، فيما وفرت تلك الوسائل الفضاء العام المفتقد والممنوع في هذا البلد، فسهّلت التفاعلات بين الأفراد والجماعات، ويسّرت ولوج فئات مهمشة إلى الحياة العامة مثل النساء والشباب، وسرّعت وتائر العمل، ومهدت الطريق للاعتراف بطبقة جديدة من النشطاء والمؤثرين، وأشاعت ثقافة الاختلاف، إضافة إلى لائحة طويلة من التغيرات الإيجابية التي لم تكن ممكنة لو لم تظهر تلك التقنيات. لكن تلك الشبكات، التي عززت ضلعين من هرم العمل السياسي وهما الكشف أو التمييز، ثم الكلام، تسببت في ضمور الضلع الثالث الذي يمكن عدّه غاية هذا الهرم، وهو “الفعل”. ذلك أن تلك الوسائل المريحة، الباعثة على الكسل البدني، حجبت الحضور الفيزيائي للناشطين، وطمست المكان، فخسر العمل أصالته، لصالح أشكال زائفة من الوجود والنشاط، وتراجع الالتزام والجديّة اللذان يميزان من يظهر موقفه بوضع كامل كينونته البدنية والذهنية في خدمة قضيته.
وعلى الرغم من اختلاف الظروف، إلا أن هذه الإشكالية ليست طارئة في علم الاجتماع السياسي، فـ”التاريخ أظهر ألفة خاصة وملهمة مع الفعل”. وقد أسس كارل ماركس، على سبيل المثال، نظرياته على أولوية عالم العمل، على عالم الفكر، وناقش ذلك بإسهاب في العديد من مؤلفاته. إلا أن أفضل الجهود وأقربها إلى ما نودّ قوله هنا، هو سعي حنة أرندت إلى تخطيط طبيعة “السياسي” في عصرنا، من حيث هو كائن مرئي ومتعلق بالشعب في إطار يومي من الاهتمام بالبيئة الجماعية، فيما تتعلق “السياسة” بظهور المرء أمام أقرانه في مجال عام يمكن فيه أن يرى ويُرى، والناس الذين يُمنعون من الظهور يخسرون شيئاً ذا قيمة إنسانية، هي فرصة الكشف عمّن هم، لأن الحياة الجماعية تفترض حضور السمات الشخصيّة. فمن نحن كأفراد، يعتمد على كيف نكون مع الآخرين، في هويتنا الجسدية ونشاطنا الخاص ونبرة صوتنا، لأن هذا بالضبط ما يؤكد أن الشخص موجود، وفي مجرى هذا الانكشاف والانفتاح يمكن لكثير من الأشياء أن يحدث. تصف أرندت هذا النوع من الحياة الجماعية بأنه “مجرد العيش معاً” في عالم يخلقه الناس بأفعالهم، وهم لن يرغبوا في العيش فيه فيما لو خلقه سواهم، حتى لو طابَق أفضل توقعاتهم.
ازدهر استخدام الحضور الجسدي في العمل السياسي المنظم على نطاق واسع، في القرن العشرين، سواء من قبل حركات سياسية أو اجتماعية، وشجعه ونظّر له سياسيون وقادة ومفكرون، من مارتن لوثر كينغ إلى غاندي وسواهم، وطور مناضلو حركات التحرر اللاعنفية والمدافعون عن البيئة ومناهضو الحرب والعولمة، تكتيكات وأساليب متنوعة. أما في السياسة التقليدية في الدول الديموقراطية، فما زال اللقاء المباشر مع الجمهور من جانب السياسيين والمرشحين لتولي مناصب صنع القرار العليا، بنداً حاسماً في أجنداتهم.
إن ما يميز “السياسي” هو القدرة على اتخاذ القرار وفرضه، سواء أكان مصيباً أو خاطئاً. لكن وسائل التواصل الاجتماعي أفقدت السياسيين السوريين الثقة في النفس، وجعلت حتى الشبان جداً منهم، أكثر جبناً وتردداً، يختبئون في الشبكات العنكبوتية، ويوهمون أنفسهم بفتح الأبواب المغلقة فيما هم يدفعون باباً دواراً إلى ما لانهاية، ويقتضي الخروج من هذه الدوامة أن يحطم النشطاء أساليب وتقاليد العمل التي تجذّرت خلال العقد الماضي وما قبله، والتحرك للقاء أقرانهم وشركائهم، وبناء عالم يتشابك فيه تاريخهم الخاص مع التاريخ والشأن العام، بينما تناط بوسائل التواصل الاجتماعي مهمة تكوين شبكات الدعم والقاعدة الاجتماعية، مع لفت النظر بشكل دائم إلى أن اضمحلال واندثار أي قضية مرتبط بتواري المكافحين من أجلها، والذين عمدت السلطات عبر التاريخ إلى حجب ظهورهم الواقعي عبر تغييبهم في السجون أو حتى إعدامهم في مسعاها لوأد قضيتهم.
المصدر: موقع المدن