عمر قدور
“أم البراء” النازحة من ريف حماة الغربي، زوجة أحد مقاتلي اللواء سليمان شاه “العمشات”، ذهب زوجها للقتال في ليبيا من دون أن يخبرها، وكانت تعيش معه ومع أهله في مخيم في عفرين. عندما علم أهله بذهابه حملوها مسؤولية ذلك، وقاموا بطردها مع طفلها ذي السنتين، طالبين منها العودة إلى خيمة أهلها في مخيم كفرحوم. المقاتل ياسين.ج، حسبما تروي أمه، ذهب للقتال في ليبيا في اليوم الثاني من زواجه، وقتل هناك بعد أسبوع، ولم تحصل عائلته على أي تعويض مالي بخلاف الوعود التي تم تقديمها للمرتزقة. ع.عثمان لم يكن قد بلغ سن الرشد القانوني عندما تم تجنيده للقتال في ليبيا، تجاوز هذا السن قتيلاً، وقبل مقتله اتصل مرتين بوالدته المريضة وأخبرها بأنه سيؤمن لها حياة أفضل.
الأمثلة الثلاثة السابقة هي من تقرير استقصائي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، نُشر في آذار 2021، ولعلها تصلح لتضيء مسبقاً على بعض النتائج المقبلة وسط اللغط الذي أثير مؤخراً حول مشاركة مرتزقة سوريين في الحرب الأوكرانية، من قبل موالي الأسد وشبيحته ومن منتسبي “الجيش الوطني” الموالي لتركيا. حينها أيضاً كذّبت فصائل تابعة لأنقرة ذهاب مرتزقة محسوبين عليها، حتى أتت صورهم وفيديوهاتهم من هناك لتكذّب المكذبين.
والنتائج المتوقعة تتضمن المقدمات، فطرد زوجة من مخيم إلى آخر من قبل أهل زوجها عبارة تنطوي بمفردها على مخزون هائل من البؤس. الفعل الذي قام به أهل الزوج لا ينبع من رفض مبدئي لموضوع الارتزاق؛ هو صراع ضارٍ على مساحات بائسة للعيش، وصراع أشد ضراوة على لقمته. ليس من تقاليد العائلة السورية رمي زوجة الابن في غيابه، بل قد يلحق بها العار اجتماعياً بسبب تهربها من إعالة الزوجة. لكن هذه القيم تعود إلى زمن مضى، لا إلى زمن المخيمات والمساعدات الأممية التي تصل أو لا تصل حسب تفاهم أو عدم تفاهم مندوبي واشنطن وموسكو في مجلس الأمن. في زمن المخيمات، ربما كان الابن الذي ذهب مرتزقاً صاحب الكلمة العليا قبل ذهابه، لأنه هو معيل أهله وزوجته، وعندما انعدمت فائدته بذهابه وعدم إرساله المال لم يغفر ذلك الماضي لزوجته.
من ليبيا إلى أوكرانيا مروراً بأذربيجان، ما يحرّك هؤلاء المقاتلين هو المال، المال الذي تحتاجه الغالبية منهم بحكم الفاقة، وربما يسعى إليه البعض مدفوعاً بالجشع. هذا ما توضحه الأمثلة البائسة السابقة، وباستثناء التفصيل المتعلق بالعيش في المخيمات فالوضع لا يختلف تحت سيطرة الأسد. هناك أيضاً الفاقة التي بلغت حدود المجاعة، والشرائح الأوسع التي استنفذت إمكانيات العيش شبه الكريم، ولم يعد معيباً الإنفاق من الأخلاق أو الكرامة، وتطوع شاب للقتال كمرتزق ليس في أسفل سلم التنازلات، بل ربما صار أشبه بالسفر إلى العمل في الخارج كما كان دارجاً في الأيام الخوالي للفقر الغابر.
لا يغيّر من اللوحة المشهد السابق وجود قلة من المقاتلين الذاهبين إلى أوكرانيا حباً ببوتين، وعرفاناً له بجميل تدخله العسكري لصالحهم في سوريا، أو ذهاب مقاتلين معارضين بهدف الانتقام من الجيش الروسي الذي دمّر وأباد ونكّل في سوريا. هذا الدافع المزدوج لم يكن حاضراً عندما ذهب الطرفان إلى القتال في ليبيا مثلاً، وقد لا يكون حاضراً على هذا النحو إذا ذهب الطرفان مستقبلاً للقتال في ساحة جديدة لا نعرف أين تكون.
في سوريا، ثمة فائض من المقاتلين بالقياس إلى الجبهات المتبقية، وهناك فائض من الشباب والرجال قياساً إلى فرص العمل ضمن اقتصاد منهار ومتوقف. بل ينبغي مواجهة الواقع بجرأة والقول أن الحركة الأساسية للاقتصاد خلال السنوات الأخيرة هي تلك المرتبطة بالأعمال الحربية، وبها وعلى هامشها تتركز فرص العمل عموماً. منذ سنوات انتهت الدوافع الأولى المحفّزة على القتال، ضد الأسد أو للدفاع عنه، ليصبح القتال إلى حد كبير بمثابة عمل يدر دخلاً، وفي الكثير من الأحيان هو الوحيد المتاح، ليصبح في مقام الضرورة التي ليست في المتناول دائماً.
سيكون من النفاق في هذه الظروف مقاربة ظاهرة المرتزقة بتعفف، وهي المقاربة السائدة لجهة إنكار وجودهم أولاً، وتالياً التستر عليهم باعتبارهم متطوعين للدفاع عن المبادئ، أو التبرؤ منهم كتهمة تُرمى على الطرف الآخر فقط. هذه المقاربة تتضمن أن هؤلاء كانوا مبدئيين أيضاً في سوريا، ويتم إفسادهم بالمال الخارجي الذي يوعدون به. تصديق ذلك يقتضي أن المال الخارجي لا يؤدي الفعل ذاته في سوريا، وكأن الميليشيات والفصائل المتحاربة تعمل بتمويل ذاتي سحري قادر على تسليحها ودفع رواتب المنضوين فيها، أو يتوجب الظن أن هؤلاء لا يقبضون رواتباً، والتي لولاها لبحثوا عن سبل العيش لهم ولأسرهم في مكان آخر.
للذاهبين إلى القتال من أجل المال فضيلة الوضوح، سواء بسبب الفاقة أو الجشع. تقول لنا ظاهرة المرتزقة ما لا نود سماعه عن أحوالنا، فهم ليسوا فئة شاذة، خاصة بوضعهم ضمن ظاهرة الارتزاق الداخلي الأعم. فهْم الظاهرة هو من المداخل الأساسية لفهم أن يقود شخص أمّي على جميع المستويات لواءً يرسل مقاتليه إلى ليبيا، وهو مثال يجوز التدليل به على جميع الفصائل، بما فيها فصائل متشددة نخطئ إذ نظن أن دافع الانتساب إليها أيديولوجي بحت. في مقلب الأسد، منذ سنوات أدرك مقاتلوه تفاهة ما يدافعون عنه، ونعني بهم المندفعين إلى الحرب لا المجبرين على خوضها، وإذا كان المال محفزاً أساسياً لهم للتصدي للثورة فلم يبق سواه لاحقاً، فضلاً عن توزع الولاءات المرتبطة به بين روسيا وإيران والأسد.
ربما، الآن، هناك أم سورية موعودة بأن يأتي لها الدواء بدماء ابنها الواصل إلى أوكرانيا، وهناك عروس ودعت زوجها الذي تُحسد عليه لأنه في الأصل مقاتل يقبض راتباً متدنياً يمتاز به عمن لا عمل له. لا ينفع القول أن نتيجة المخاطرة معروفة سلفاً، وأن المرتزقة فئة محرومة من الحقوق، ويُصار دائماً إلى إنكارهم والتخلص منهم بعد الزج بهم في أخطر المعارك وأقذرها. الذاهبون يعرفون هذا كله، والقلة منهم فقط تدفعها روح المغامرة.
المصدر: المدن