جسر: رأي:
فعلَ المقاول السابق المصري محمد علي ما يجب فعله، فنزل مصريون غاضبون إلى الشوارع ليكسروا هرَم الخوف الذي بناه السيسي. لا نعلم حتى الآن ما إذا كانت اللحظة مناسبة، بمعنى أن الحراك قابل للتعاظم، وأنه يملك فرصة للنجاح. لكن، بصرف النظر عن المآلات القريبة، فعل محمد علي ما لا يجرؤ آخرون على فعله، بمن فيهم مصريون خارج أسوار الخوف. وفعل ما لا يستطيع آخرون فعله لأنهم ليسوا في موقعه، ويفتقرون إلى الإسفاف الذي يتميز به.
قد يخجل كثر من تكرار الشتائم المقذعة التي تنساب من فم محمد علي، هذا واحد من مكامن قوته وتأثيره. المسألة لا تتوقف على كونه يلامس نبض الشارع بتلك الشتائم، رغم أن ملامسة نبض الشارع ليست تهمة. الأهم أن يجد المستمع في كلمات من نوع “واطي، جزمة،…” توصيفاً عفوياً مستحقاً، فلا تستنكره الأذن قبل العقل. إن ما هو مقذع، عندما يُستخدم في مكانه، يصبح تشريحاً للحال. بل سيبدو صاحب الإسفاف صادقاً وهو يعلن تعففه عن المزيد من الإسفاف المستحق، ليترك للمستمع أن يطلق عنانه.
يربح محمد علي الجولة الأولى إذ يقدّم نفسه ابناً للفساد المعمم، لنظام “ما تحت الطاولة”، فلا ينسب لنفسه الطهارة التي يدّعيها فاسدون كبار. ينجح أيضاً وهو يتحدث عن تعليمه المتواضع في نظام تعليمي رديء، فلا يكون مطالباً بأعلى مما يتيحه له ذلك النظام. هو كمن يقول “أنا الثمرة النموذجية لهذا النظام”، فلا يبرئ نفسه إلا بقدر ما يدين النظام.
استطراداً، لغة محمد علي المقذعة هي اللغة المطابقة للنظام، وعلينا الكفّ عن نسبها إلى الشارع تحقيراً للأخير. علينا النظر إلى محمد علي بوصفه ابناً للنظام، بتعليمه الرديء وبمخابراته وجيشه، وصولاً إلى رأس الهرم. وإذا صدّقناه حتى النهاية، علينا الإقرار بأن محمد علي هو الوجه الأفضل للنظام، الوجه الذي لم يعد يحتمل مقدار ما فيه من إسفاف. وإذا لم نصدقه، هو على الأقل المُبعَد الناقم الذي يفضح ما في الصندوق الأسود من داخله.
المقذع، الذي يمس بكرامات الناس حقاً، أتى برد السيسي الذي توعد ببناء المزيد من القصور. هنا فجور السلطة بأبهى تجلياتها وأحطّها لغة ودلالة، وفي مجرد ردها عليه إثبات لإسفافها، إلى درجة أنها لا تستطيع لعب دور المتعالي الكاذب. في لغة الرد إثبات إضافي لما كشفه محمد علي من لغة تُستخدم في أوساط السلطة، وفيها تأكيد على أنه ابنها البار والعاقّ معاً.
من دون أن يقصد، قدّم محمد علي صورة للمقاول مغايرة لتلك التي قدّمتها السينما والدراما المصريتين، فنحن لسنا إزاء ذلك الأمي الجاهل تماماً، ولا إزاء ذلك الكاركتر الذي يثير الضحك لناحية الفيزيك أو لجهة بعض الأفعال المبالغ فيها مثل الشراهة في الأكل أو العيون الجائعة لأجساد النساء. أمامنا شخص متوسط التعليم، يرى حبه للرفاهية من طبيعة الحياة، نموذجه المفضّل هو النموذج الغربي ولو لم تسعفه ثقافته بالتعبير جيداً عنه. هو يحتقر مفهوم الدولة الذي يعظّمه آخرون، لا من موقع الذي خبر فسادها فحسب، وإنما أيضاً وفق رؤية شعبوية يصادف اتفاقها مع موجات نراها هنا وهناك.
بمحض المصادفة ليس إلا، يصادف أن رئيس الولايات المتحدة مقاول أيضاً، وخلال السنوات المنقضية من حملته الانتخابية وحكمه اعتاد العالم على إسفاف لغته، وحتى على أطروحاته السياسية التي تشي بشخصية المقاول. ذلك لا يجعل من محمد علي مرشحاً لرئاسة مصر، أو بديلاً في حال حدوث تغيير. هو مجرد تذكير بما طرأ عالمياً كموجة مضادة للأطر السياسية التقليدية، وصعود الشعبوية على أنقاض أحزاب لها باع طويل في التجارب الديموقراطية.
التذكير بيأس الغربيين من الأحزاب التقليدية قد يساعدنا على فهم أحد جوانب ظاهرة محمد علي، إذ لدينا في مصر وعموم المنطقة يأس من كافة التجارب السياسية التي أثبتت فشلها وإن أتى الفشل خارج مناخ ديموقراطي. لدينا أيضاً ذلك القرف العام من مؤسسات صورية، ومعرفتنا بأن السلطات أنشأتها فقط بغاية إعطاء مظهرها شيئاً من الحداثة لا تقلل سوى نسبياً من منسوب القرف، حتى إذا لم نأخذ في الحسبان عداء الإسلاميين وبقايا اليسار لليبرالية. لعل هناك شبهاً، لا يندر حدوثه من مواقع وأسباب متباينة، بين الآتين مما قبل الحداثة والماضين في ما بعدها.
قد يجدر بنا الانتباه أيضاً إلى أسباب محلية وجيهة تساعد ظاهرة محمد علي، فمنذ انطلاق ظاهرة الربيع العربي برز ما سُمّي بالثورة المضادة، وهذه التسمية مخاتلة بدورها لأننا لم نكن على موعد مع ثورة مضادة تستوعب الثورة على النظام القديم. الحق أننا وجدنا أنفسنا أمام نسخة شديدة الإسفاف من النظام الأسبق، نسخة غير قادرة بطبعها على إنجاز مصالحة مجتمعية، وغير قادرة سوى على تمثّل البلطجة على كافة المستويات بلا تجميل أو تزويق. ما يحرّك فلول الأنظمة السابقة في عموم المنطقة قناعتها بأن القمع السابق لم يكن كافياً كما يجب، وعليه لم يعد مستحباً تشذيبه لئلا يعتبر علامة على ضعفه. الإسفاف الحقيقي هو ما يُقال ضمناً أو علناً: سنجعلكم تترحمون على ما ثرتم عليه.
مواجهة الإسفاف بالإسفاف لن تكون الحل، بموجب ما سيراه منتقدون كثر للظاهرة. إلا أن هذا الانتقاد الوعظي لا يساعد على فهم الواقع، ولا يساعد تالياً على المساهمة في تغييره من موقع مختلف. لقد رأينا في السنوات الأخيرة أنواعاً من التعفف عن الشارع، ورأينا مؤداها الذي وصل إلى العداء للتغيير. في مقابل أصحاب هذا النوع من العفة، قد يصبح امتداح الإسفاف واجباً لا حباً به وإنما لجدارته. في واحد من معايير الجدارة، بدأت أصوات مصرية مثقفة تعلو بنقد خجول لم تكن تتجرأ عليه قبل أيام. هذا ليس كافياً بعد، إذ يلزم الكثير من الجرأة المعممة لنقول: وداعاً للسيسي ووداعاً لمحمد علي.
المدن 24 أيلول/سبتمبر 2019