ريهام منصور/ نقلاً عن المدن
ألبسوا محمود، العباءة التقليدية والكوفية والعقال، ليبدو ابن الـ18 عاماً رجلاً. تقدم محمود بخطى خجولة مترددة في الزفة، ليقابل عروسه حلا، لكنه لم يتعرف عليها للوهلة الأولى لكثرة الأصباغ والمساحيق التي لطخوا بها وجهها الطفولي لتبدو ابنة الـ15 عاماً فتاة ناضجة.
الزواج المبكر ليس غريباً عن منطقة وادي الفرات في سوريا ومجتمعها العشائري، لكنه تراجع كثيراً في العقود الخمسة الأخيرة. وصار الزواج قبل إنهاء خدمة العلم للشباب “أقل من 22 عاماً” شبه معدوم، وارتفع بالتالي سن الزواج للفتيات ليلامس العشرين في أدنى تقدير.
لكن منذ تفجر الثورة السورية، استعادت هذه الظاهرة زخمها. أهل محمود لجؤوا إلى توريطه بمسؤولية العائلة، لضمان عدم انخراطه في التشكيلات المسلحة التي ابتلعت عدداً كبيرة من أقرانه اليافعين المتحمسين. أما أهل البنات فأصبحوا أميل إلى تزويجهن وتأمين نوع من الاستقرار لهن في تلك الظروف العاصفة التي لا يضمن أحد فيها ما قد يحمله الغد من تقلبات.
طقوس ما قبل الثورة
كانت حلا، تحلم بزفاف كالذي استقرت تقاليده عبر مئات السنين، مثل الذي حظيت به شقيقتها الكبرى في العام 2008، وتعدد مراحله وفق تسلسل حدوثها؛ الود والانجذاب البريء بين فتاة وشاب، وهذا ما يدعى الرَادة (من يريدان بعضهما بعضاً)، فيرسل الشاب من طرفه امرأة على الأغلب، تلقب بـ”الوداد” لتستطلع موافقتها من عدمه بشكل سرّي، وفي أحيان قليلة تبادر الفتاة إلى إرسال أحد من طرفها لتقول للشاب عبارة مقتضبة “فلانة تريدك” أي تحبك، وإذا حصلت الموافقة المتبادلة يرسل الشاب عائلته، من رجال ونساء، ليلتمسوا موافقة عائلة الفتاة، وهذا يدعى “المحاكاة”، أي نوع من الكلام الأولي حول الموضوع.
كلام الوداد وموافقة الفتاة، ليس لهما الكثير من القيمة إن رفضت عائلة الفتاة. ولكن في حال حصولها تأخذ الامور بعداً جديّاً ورسمياً، ويتم جمع أكبر عدد من الوجهاء للقيام بالخطوة الأخيرة وهي “المشيّة”، التي تتضمن دفع المهر “السياق”، وكتب الكتاب “مسك العقد”، ثم تحديد موعد العرس، الذي تسبقه ثلاث ليال من رقص الدبكة والغناء، ويتلوه مثلها، من المباركات والتهنئة.
عادات مستحكمة
قبل الثورة كانت قيمة المهر تتباين من قبيلة لأخرى، وداخل القبيلة الواحدة. فإذا كانت العروس والعريس من عشيرة البوسرايا فالمهر بحدود 60 ألف ليرة، لكنه قد يرتفع إلى 500 ألف إذا ما كانت الفتاة من احدى القبائل المجاورة كقبيلة البقارة. والعكس صحيح أيضا. كما يتم الاحتكام لما يسمى بالقياس.
حلا تتذكر كيف رافقت شقيقتها في رحلة شراء الذهب، والثياب ولوازم العرس الأخرى. فتقول: “دفع اهلي أيضاً مبلغاً اضافياً لشقيقتي لاستكمال حاجياتها، ولتظهر بمظهر لائق أمام عائلتها الجديدة”. وتضيف: “لكن بطبيعة الحال بعض العائلات تستولي على جزء من المهر، ويعد ذلك السلوك مذموماً، ورفع مقداره يعبر غالباً عن رغبة أهل العروس بتمييز انفسهم، ونادراً ما يكون دافعه الجشع والطمع”.
كبار السن
الموت المفاجئ لأحد كبار السن، يلغي تلقائياً الاحتفالات المرافقة لـ”مناسبة العمر”. ولذا، فإن تحديد موعد الزفة، لا يتم إلا بعد تقصي الأحوال الصحية للعجائز في العائلتين. تضيف فاطمة بحزن: “كان هذا قبل الثورة، أما الآن فحالة الحزن تعم البلاد، وطال الموت كل عائلة واسرة، فأصبح زواجٌ كزواجي، يتم من بيت أهلي لبيت زوجي، وهذه مسلّمة لا داعي للنقاش فيها”.
بعد الثورة..
الهدف الأساسي لزواج حلا ومحمود، هو منع الأخير من الالتحاق بالمقاتلين، والخوض في حرب لا يعي أسبابها. لكن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن، إذ عادت بلدته لتقع تحت سيطرة النظام مجدداً. ولأنه اصبح أباً لطفلين فإنه لم يتمكن من الفرار كأقرانه إلى الشمال السوري أو إلى تركيا، وهكذا وقع في قبضة قوات النظام، التي ساقته للتجنيد الاجباري، بعد “تسوية” ملفه الأمني من خلال وساطة شيخ قبيلته الموالي للنظام.
رغم أن أيمن كان يبلغ 23 عاماً عندما اتخد قرار الزواج في نهاية العام 2012، إلا أن ذلك لم يفصله عن الثورة. يقول: “زواجي جاء بشكل فجائي، فأهل زوجتي يعلمون أن نيتنا الزواج ولكن بوفاة والدها، بات من الصعب زيارتهم دون صفة رسمية، كما أن أهلي ضغطوا من أجل هذا الزواج لكي ابتعد عن الثورة، تركت جامعتي وتزوجت ليقتصر زواجي على جلب عروسي من منزل أهلها إلى بيتنا، دون أية مظاهر للفرح فالحزن كان يخيم على قريتنا، الخريطة، وكان ذلك القرار بموافقة أهلي وأهلها”.
وبعد ثلاثة أيام ترك أيمن عروسه، متوجهاً للتغطية الإعلامية لمعارك منجم الملح غربي ديرالزور، وعاد بعدها ليبقى يوماً واحداً ومن ثم يغادر إلى تركيا لاستلام دفعة مساعدات إنسانية من أجل الأهالي.
أيمن الآن أب لطفلين، سعيد بأسرته لكنه يشعر أنه تحمل وزراً ثقيلاً في سن مبكرة، خاصة أن عائلته وإخوته يرافقونه في رحلة النزوح إلى تركيا حيث يقومون بأعمال زراعية من أجل العيش. ولكن حلم الدراسة ما زال يراوده، مثل أحلام كثيرة عصفت بها الثورة، التي غيرت حياة النشطاء جذرياً. يقول: “ما زلت في الخامسة والعشرين من العمر سأكمل دراستي لأحقق حلم والدي”.
تحاليل طبية بأمر من داعش
يقول أيمن “منذ العام 2013 بدأت مظاهر الاحتفالات بالتلاشي بسبب النشاط الدعوي الذي بدأت تقوم به الجماعات الإسلامية سواء جبهة النصرة أو حركة أحرار الشام الإسلامية، وبدأنا نشاهد أعراساً ذات طابع ديني غير معتادة في منطقة وادي الفرات”، ولكن، يتابع أيمن: “مع تنظيم داعش المتشدد، فإن أي مظهر من مظاهر الاحتفال حرام، وليس للعريس أن يحلق لحيته ليلة زفافه إلا إذا ظل ملازماً منزله، فذلك يعرضه للعقاب والاعتقال، ولكن بقيت العادات والأعراف كما هي من حيث المحاكاة، السياق وغيرها”.
“داعش” كان يطلب من الأقارب الراغبين بالزواج، إجراء تحاليل طبية تؤكد عدم إمكانية حدوث تشوه أو إعاقة.
زوجة وأم وأرملة
عانت فتيات منطقة وادي الفرات في حقبة سيطرة “داعش” من الزواج القسري من مقاتلي التنظيم، ليتبع ذلك وجود آلاف الأرامل والأطفال الأيتام الذين قتل آباءهم في المعارك. وفرض الزواج بطرق لم تكن مألوفة ولم تراعِ أبسط المعايير المتعارف عليها.
روعة علي، الشابة الفراتية التي لم تبلغ العشرين عاماً، خرجت مكشوفة الوجه لشراء بعض الحاجيات من بقالية في حييها ببلدة هجين، فشاهدها عنصر “الحسبة” أبو عبدالرحمن العراقي، الذي لحقها وطرق باب منزلها ليخرج والدها على كرسيه المتحرك، فيسأله عن سبب خروج ابنته سافرة، الأمر الذي سيعرضها للاعتقال والخضوع لدورة “استتابة” ودفع غرامة مالية تقدر بـ25 ألف ليرة سورية.
غطت الفتاة وجهها، وتكلمت إلى الداعشي معتذرة. فاستغل العراقي الفرصة، وطلب من عناصره الانصراف، عارضاً على الوالد مهراً بـ3 ملايين ليرة مقابل الزواج من ابنته. تقول روعة: “اضطر والدي للموافقة بسبب الفقر والديون المتراكمة علينا، تزوجت وبعد عام ونصف أصبحت أرملة وأماً لطفل يتيم، فقد قتل زوجي بغارة جوية نفذتها طائرات التحالف الدولي على منطقة الكشمة في أيلول 2018، فعدت بعدها إلى منزل والدي من جديد”.
أجبرت على العودة فقتلت
خالدة أحمد، زوّجها شقيقها لمسؤول جزائري في داعش يدعى “أبو القعقاع”، خلافاً لرغبتها، فحرمها الزواج من شاب تحبه. أضحت خالدة الزوجة الثالثة للقيادي الجزائري، بعد زوجتين إحداهن يزيدية سبية من سنجار.
شقيق خالدة المنتسب للتنظيم، أراد بتزويج شقيقته من “أبو القعقاع” أن يترقى في التنظيم. لكن القيادي الجزائري، اصطحب زوجته الجديدة إلى العراق، ولم يعد حتى هزمت داعش وسيطرت القوات العراقية على الموصل. “أبو القعقاع” عاد واستقر مع زوجاته في بلدة السوسة، حيث ازدادت الأزمة بينه وبين خالدة، التي حاولت الانفصال عنه عبر بقائها في منزل أهلها أربعة أشهر. لكن شقيقها أجبرها على العودة إلى زوجها مجدداً، فقُتِلَت في غارة جوية على السوسة في العام 2018.
لا سجلات مدنية
خرجت ديرالزور وأريافها عن سيطرة نظام الأسد منذ العام 2012، وتوقفت مؤسسات السجل المدني عن العمل، ولم يعد بالإمكان تسجيل عقود الزواج، ولا المواليد الجدد.
يقول سامر الحسين: “بعد سيطرة الجيش الحر 2012 على المنطقة لم يعد الناس يكترثون بالعقود، ولا توجد دوائر رسمية و90% من الشبان في عداد المطلوبين، وبات الناس يتزوجون بعقد شيخ، وبناء عليه لم يعد بالإمكان تسجيل المواليد الجدد وامتلاكهم أوراقاً رسمية تثبت هويتهم”.
حسين، من ريف ديرالزور ومتزوج منذ ثلاث سنوات وأب لطفلين، يقول: “ما يثبت نسب أولادي عقد الزواج بيني وبين أهل زوجتي”، في إشارة منه إلى ورقة “كتب الكتاب” التي يبرمها الشيخ بين الطرفين من دون تثبيتها في محكمة.