جسر: رأي:
في الأيام الماضية انتشرت صور للزيارة التي قام بها قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني إلى مدينة البوكمال في محافظة دير الزور شرق سورية[1]، فما الذي دفعه لزيارة دير الزور هذه الأيام خصوصاً بعد دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ؟؟
في عام 2017 عنونت صحيفة التايمز البريطانية أن محافظة دير الزور يمكن أن تصبح “برلين الصراع” في سورية[2]، تزامناً مع الحملتين العسكرتين الشرستين اللتين هدفتا للسيطرة على هذه المحافظة الغنية بالموارد الطبيعية كالنفط والغاز، على اعتبار أنها كانت الجيب الأخير لتنظيم الدولة في سورية، الطرف الأول كان النظام السوري مدعوماً بحلفائه روسيا جواً وإيران عبر ميليشياتها براً، أما الطرف الثاني فكانت الولايات المتحدة الأمريكية عبر حليفتها المسماة “قوات سوريا الديمقراطية”. وهو ما نتج عنه بعد انتهاء العمليات العسكرية انقسام المحافظة إلى ضفتين يفصلهما نهر الفرات، كل طرف منهما يُسيطر على واحدة منها (الجزيرة والشامية، فالأولى تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات، بينما الثانية تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات، انظر الخريطة أدناه).
دير الزور التي تحظى بأهمية استراتيجية لدى طهران بسبب وقوعها على الطريق الممتد من إيران إلى العراق مروراً بسورية وانتهاءً بلبنان، هذه الأهمية تُفسرها الزيارات الميدانية المستمرة التي كان يقوم بها قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني بعد سيطرة المليشيات الإيرانية عليها، وعلى الرغم من الضربات الإسرائيلية المستمرة التي لم تتوقف إطلاقاً، إضافةً إلى التصعيد الذي حصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران عقِب اغتيال قاسم سليماني، لم تغير كل هذه الأحداث من السياسة التي تنتهجها طهران شرق سورية وهي السياسة نفسها التي دفعت قائد الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قآني إلى زيارة مدينة البوكمال مؤخراً بهدف تفقد المواقع العسكرية التي تُديرها إيران في المنطقة، وفي ذلك تأكيد واضح على أنها لم ولن تفكر أبداً بالانسحاب من سورية تحت ضغط الضربات العسكرية كما أشيع قبل عدة أشهر[3]، ولن تتخلى عن دعم ميليشياتها الموجودة هناك، بل على العكس فقد ذكرت تقارير إعلامية عن نية إيران نقل معدات عسكرية وصواريخ جوية إلى مدينة البوكمال الحدودية بهدف تعزيز نفوذها العسكري والأمني في تلك المنطقة، على الرغم من العقوبات التي سيفرضها قانون قيصر على كل جهة أو كيان يدعم النظام السوري مالياً وعسكرياً.
إيران لم تتوقف إطلاقاً عن محاولاتها الحثيثة لنشر التشيع والعمل على التغيير الديموغرافي بشكل مستمر في المنطقة الشرقية من سورية في المناطق الريفية التي تعاني من أوضاعٍ اقتصادية صعبة، حتى قبل انطلاق الثورة السورية بسنوات طويلة بتواطؤٍ واضح ومقصود من قبل النظام السوري[4].
بعد سيطرة إيران على هذه المنطقة في عام ٢٠١٧، عملت على نشر التشيع من خلال إنشاء مراكز ومراقد دينية مثل مركز عين علي الذي يقع على أطراف مدينة الميادين شرق سورية، كما عملت إيران على التغلغل ضمن المجتمعات المحلية من خلال الأنشطة التي تقوم بها عبر مراكزها الثقافية التي أنشأتها في السنوات الثلاث الماضية، بالإضافة إلى ادعائها تنفيذ الأعمال “الخيرية” عبر منظمة “جهاد البناء” بهدف التقرب أكثر من سكان هذه المجتمعات المحلية على الرغم من الرفض الشعبي المستمر لها، وأخيراً أقامت إيران مراكز عسكرية وأمنية عديدة بهدف تجنيد وتطويع الشباب السوري في تلك المنطقة من خلال إغرائهم بالمال وحمايتهم من الملاحقة الأمنية لمخابرات النظام السوري حتى للذين قاتلوا النظام السوري سابقاً، وابتزازهم في حال الرفض بتلفيق تُهَمٍ عديدة؛ مثل الانتساب لتنظيم داعش أو لفصائل المعارضة السورية، هذه التحركات العسكرية المتواصلة من قبل طهران رافقتها تحركات اقتصادية وتجارية بهدف تعزيز الوجود الإيراني أكثر، ففي أيلول/ سبتمبر من العام 2019 تم الافتتاح الرسمي لمعبر البوكمال – القائم الحدودي مع العراق لتأمين الطريق البري وتعزيز نفوذها أكثر، كما وافقت حكومة النظام السوري مؤخراً في شهر أيار/مايو 2020 على منح شركة إيرانية عقد استكشاف البترول وإنتاجه في البلوك رقم 12 في مدينة البوكمال في محافظة دير الزور، حيث أن الهدف من العقد هو “سداد الدين الائتماني طويل الأجل” بحسب ما ذكر وزير النفط لدى النظام السوري[5].
على الرغم من محاولات إيران المستمرة لترسيخ وجودها في محافظة دير الزور، إلا أن هناك صعوبات عديدة تواجه إمكانية بقائها مستقبلاً في تلك المنطقة، أولها رفض المجتمعات المحلية للوجود الإيراني على الرغم من كل المحاولات التي قامت ولا تزال تقوم بها إيران لاستمالة هذه المجتمعات، إلا أن النسيج العربي المكون لسكان المنطقة – ناهيك عن الجانب الديني الرافض لإيران – يبقى عائقاً أمامها؛ فالوضع في سورية يختلف عن العراق تماماً، ثانياً الرغبة الإسرائيلية في طرد إيران وميلشياتها من سورية، ويُترجم ذلك على أرض الواقع من خلال تنفيذ إسرائيل لضربات جوية مستمرة مستهدفة مواقع تلك القوات والمليشيات الإيرانية، هذه الضربات لا يصدر عنها أية ردة فعل من الحليف اللدود روسيا، ثالثاً الوجود الأمريكي في الضفة اليسرى من نهر الفرات وهي التي تُساند إسرائيل في تحقيق نفس الهدف لإخراج إيران من سورية، رابعاً تنفيذ تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من خلال جيوبه المنتشرة في البادية السورية عمليات عسكرية مستمرة ضد قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية، وأخيراً قد ينعكس الجانب الاقتصادي الذي تمر به طهران بشكل واضح على قدرتها في تمويل تواجد هذه المليشيات خصوصاً في ظل الحديث عن تجهيز الكونغرس الأمريكي لعقوبات اقتصادية ستكون الأقوى على طهران تاريخياً[6].
[1] دير الزور: المحافظة الواقعة على الحدود العراقية في المنطقة الشرقية من سوريا وهي المطلة على نهر الفرات، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” السيطرة عليها منتصف عام 2014بعد معارك ضارية استمرت لأكثر من ستة أشهر مع مختلف الفصائل العسكرية المتواجدة في المحافظة، خسر فيها التنظيم عدداً لا بأس به من قياداته وعناصره. وبعد ذلك بقي التنظيم مسيطراً على هذه المحافظة قرابة الثلاث سنوات قبل بدء العمليات العسكرية ضده، ارتكب فيها العديد من المجازر بحق أبنائها وعشائرها ومنها المجزرة الشهيرة التي ارتكبها بحق أبناء عشيرة الشعيطات.
1]، Source: Middle East Directions, https://bit.ly/2VvAndV, 2019
[2] The Times, Powers at war in Syria scramble forces to capture desert “Berlin”, May 2017, https://bit.ly/31vPaJs
[3] وكالة الأناضول، هل تنسحب إيران من سورية، حزيران/يونيو 2020، https://bit.ly/3gaOFIQ
[4] عملت إيران على نشر التشيع في ريف دير الزور مثل قرية حطلة على سبيل المثال، فأقامت حُسينيات ومراكز دعوية لها، في الوقت الحالي يُسيطر النظام والمليشيات المرتبطة بطهران على هذه البلدة.
[5] العربي الجديد، الأسد يبيع سورية اتفاقيات تضحي بأهم القطاعات، أيار/مايو 2020 https://bit.ly/2BcMlCz
[6] الحرة، مشروع قرار غير مسبوق في الكونغرس لشل إيران، حزيران/ يونيو 2020، https://arbne.ws/2NHqG84