جسر: متابعات:
تقف سيدة وقد أشاحت بوجه علته تعابير النفور، وهي تجمّع طرف وشاحها لتغلق فمها وأنفها؛ وفق آليّة نفسية دفاعية عند البشر حين يواجهون أمراً مقززاً لا يريدون له أيّ اتصال بما في داخلهم وجوفهم ووعيهم.
هذا مشهد صورة شهيرة لإحدى الموظفات في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك، وهي تبدو كمن يتحاشى رائحة الجثث في واحدة من 55 ألف صورة التقطها مصوّر عسكري سوري منشق، بات يعرف في أنحاء العالم باسم “قيصر”؛ والتي نظّمت الأمم المتحدة “معرضاً” لبعضها في بهو المبنى الشهير، لتكشف زاوية واحدة فقط من شناعات نظام بشار الأسد الوحشية ضد السوريين.
لا حياة ولا إبداع في معرض قيصر: أجساد نهشها العذاب، وجلود سلختها السياط وحرائق الكهرباء، وعيون جحظت، ثم جمدت وهي تصارع لالتقاط نفس أخير قبل أن يخمِد الموت في أبشع صوره ألمها الذي يفوق الوصف.
دخلت صور قيصر -أو سيزر كما يسمى في الإعلام الغربي- متاهة السياسة، وبعد مناورات مرهقة من الضغط ومحاولات الإقناع، عاد قانون قيصر إلى الحياة فأقرّه الكونغرس ووقعه الرئيس دونالد ترامب ضمن حزمة مشروع قانون ميزانية الدفاع الاميركية لعام 2020 المعروف اختصاراً بـ (NDAA).
يضع القانون جملة من العقوبات الثقيلة على الأسد وداعميه -روسيا وإيران خصوصاً- وقادة نظامه الأمنيين والعسكريين والمدنيين والمرتزقة، ويمنع أيّ تعامل مالي واقتصادي مع النظام، ويقوّض فرص الاستثمار المحلي والخارجي في مجالات حيوية خطط الروس لتحويلها إلى منصة إعادة تعويم النظام؛ مثل النفط وإعادة الإعمار وقطاع الطيران، ويستهدف المصرف المركزي والإدارات المحلية في المحافظات، كما يعيق أي فرصة لإعادة تجهيز قوات الأسد وترميمها، وهو بصورة واضحة يعيد الأسد إلى وضعية “المنبوذ” دولياً، ويحبط شهوة الانفتاح التي طغت إقليمياً وأوروبياً بعد التدخل العسكري الروسي المدمّر الذي مكّن النظام من السيطرة على مساحات واسعة من البلاد.
ماذا بعد؟
يحمل القانون -الذي أطلق كأي تطّور سياسي سوري جدالات واسعة- وجوهاً عدّة لتأويل نتائجه، لكنّه في المقام الأول يحتاج إلى أن يدخل حيّز التنفيذ الفعلي، وإلى أن تكون الإدارة الأميركية جادّة فعلاً في متابعة تطبيقه. وقبل الشروع في استنتاج مآلات الوضع في سوريا -وحولها في الواقع- بعد نفاذ القانون، فلا بد من التأكيد أنّ الطرف المعني أولاً بالتأكد من تحوّل هذا النص المتخم بالتفاصيل إلى واقع.. هم السوريون أنفسهم. ويجب أن يكون الوضوح سيد الموقف هنا، فهذه حسب المتفائلين فرصة قد لا تتكرر لإعادة النظام إلى وضعية دفاعية دولياً، بعد أن منحه القصف البساطي الروسي، والانكماش السياسي الذي واكب توقيع الاتفاق النووي الإيراني، موقعاً مغايراً وضع الأسد في هيئة سفّاح محصّن من العقاب، بل إنّ بعض الدول الأوروبية الكبرى باتت تروج لـ”واقعية” التعامل معه باعتباره “منتصراً”.
تدعم هذه المحاجة، ضرورة تأسيس ميكانيزمات تعاون تصل في نهايات خطوطها إلى تغذية قوى الفعل في الولايات المتحدة، بمعطيات واقعية وموثّقة عن الانتهاكات التي تقع تحت طائلة هذا القانون. وسيحتاج السوريون قطعاً إلى إنتاج قوة الأثر الذي ينتجه هذا القانون على تركيبة النظام ذاته، والواقع أنّ التجربة مع نظام كنظام الأسد ستقود بسهولة إلى استنتاج رد فعل.
المرآة السورية
تستحق وجهة النظر التي تقابل التفاؤل بهذا القانون أن يُنظر فيها بتمعن، فهي غالباً ما تتأسس على تجربة متصلة من الخذلان الدولي منذ 2011. وربما يكون من الحصافة ألّا يتسرع المرء في بناء رهانات على افتراض أنّ هذا القانون هو تحوّل في مسار “التخلي” الأميركي عن السوريين، مع أنّ هذا التخلي هو في حقيقته أكثر توغلاً في الزمن من الثورة، فهو في بداياته يعود إلى نهايات خمسينات القرن الماضي، تزامناً مع بدء البعثيين بجرف سوريا نحو المعسكر الشرقي والوحدة مع مصر عبد الناصر، خلافاً لكل طبائع اجتماعها وتكوين اقتصادها وإرثها الطبقي.
محور الرؤية المتحفظة هو أنّ إدارة الرئيس ترامب تنفذ انسحاباً عملانياً من سوريا، وتكتفي بالسيطرة على منابع النفط -غير المجزية في الواقع- في الشرق والشمال الشرقي؛ تاركة بقية البلاد لتكون مناطق تنفيذية في مشروع إعادة بناء النفوذ الروسي، ومركز التشويق العسكري في مسار إرضاء الذات القيصري عند بوتين، مهما كانت تكلفته… ومذابحه.
لكنّ هذه ليست الحكاية كلّها، ففي المعطى النظري للاستراتيجيا، يجب أن تكون سوريا منطقة ذات أهمية بالنسبة للولايات المتحدة ولأوروبا بدرجة أكبر، غير أنّ الاستراتيجيا لا تقوم على الأسس النظرية، بل على الحاجات والمصالح. وربما يعود جذر قانون قيصر في هذه الحالة إلى الحاجة لمنع تحوّل سوريا إلى “جوهرة التاج” القيصري الروسي، ورفع كلفة التدخل البوتيني -وهو بكل الأحوال جزء من صفقة الاتفاق النووي بين أوباما وإيران- عبر تكريس استحالة الاستفادة منه، أي أنّ القانون يعمل باعتباره كابحاً لنجاح مشروع (ينفَّذ بأسلحة الدمار الشامل) لردم النزعات الديموقراطية التحررية؛ وهي معادلة سال لها لعاب أنظمة عديدة إقليمياً ودولياً.
في المرآة السورية ستبدو الصورة مقلوبة: يمكنك إبادة المدنيين لصالح طاغية إرهابي معتوه، لكن لا فرصة لعائد استثماري في إعادة بناء الخراب، ولا قدرة لروسيا على إنفاذ شراكات موضعية لأنظمة تتشهى بناء دولة مطاعم مفلسة.
إيران طبعاً
في البعد الاستراتيجي أيضاً، فإنّ انجراف سوريا الثاني -الخاضع والمنافي كذلك لطبائع الاجتماع بل والمضاد لمنطق وحاجات الغالبية الدينية القومية فيها- نحو المعسكر الإيراني مع بدء حرب التفجيرات الإرهابية بين بعثيي سوريا والعراق بالتزامن مع حرب الخليج الأولى إبان حكم حافظ الأسد، والذي تكرّس كتابعية ثقافية أولاً، ثم استيطانية تالياً مع حكم بشار الأسد، يمثّل تتمة لانجرافها الأول نحو المعسكر الشرقي. والانجرافان يشتركان في الحاجة والمصلحة لتأبيد الحكم.
وفي هذا المنحى يقدّم قانون قيصر باعتباره يستهدف الاستيطان الإيراني بصورة أساسية، فرصة مقابلة لإنتاج صيغة استعادة منطقية الاجتماع السوري. ورغم أنّ هذا يبدو مبالغاً فيه، إلا أنّ الحرب في وحشيتها تقدم دائماً -للمفارقة- فرصاً لبدايات صفرية في إعادة البناء. وبما أنّ القانون يعيق فرص الأسد وداعميه في إعادة تكوين سوريا وفق منظورهم الاقتصادي البدائي، فهو يبقي احتمال التكوّن المقابل متاحاً في حال نجح السوريون في استثماره.
كبتاغون القدس
سيكثّف النظام عمليات التنكيل الاقتصادي بالسوريين في الداخل وبما يمكنه في الخارج، لنشر علاقة بين الضائقة والقانون. سيكون هذا مؤلماً ومؤسفاً -وشريراً كما كل أفعاله- لكنّه يجب أن يكون قصيراً، لأن النظام سيتبوّغ كما فعلت وتفعل كل الأنظمة الخاضعة للعقوبات. وبانتظار تغيّر في مشهد السياسة الداخلية الأميركية؛ سيحاول الأسد استنساخ تجربة إيران، وستعلو في فضاء دمشق الشعارات الكبيرة عن طريق القدس والقضايا الكبرى. لكن الفارق الجوهري هو أن القانون سيخلق في الواقع نسخة ثانية من نظام صدام حسين بعد حرب تحرير الكويت.
وهذا رهان عسير يعني ترك الطاغية معزولاً ومنهكاً داخل فضاء البلد، لكنه قوي بما يكفي لمواصلة ذبح الشعب، ما سيخلق حاجة عند السوريين إلى صفقة إتمام قانون قيصر، لنقل الضغط من كلفة الاستمرار إلى ثمن البقاء، وهو ما سيخلق تناقضاً مشحوناً بإغراء اشتقاق صورة نهاية صدام، ومحاصراً باستنتاجات عجولة عن حتمية تكرار تجربة العراق.
ما يهم بعد قانون قيصر، هو أن يكون فاعلاً لإنهاء قدرة النظام على البقاء.. وهذا شأن السوريين لا شأن ترامب.
(عين المدينة)