جسر: رأي:
استُقبل إقرار قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين في مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، وتوقيع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عليه، بابتهاج كبير في أوساط المعارضات السورية، ابتهاج ممزوج بإحساس باقتراب الولوج في مسار تحقيق أهداف الثورة السورية بإحداث التغيير والتقدّم نحو فضاء الحرية والكرامة.
حدّد “القانون” الأشخاص والقوى والدول التي ستتعرّض للعقوبات، والأسباب التي ستجعل شخصا أو شركة أو دولة ما تتعرّض لهذه العقوبات، فالمروحة واسعة، والعقوبات المتوقّعة قاسية وهدفها، وفق الكونغرس الأميركي، “إجبار النظام السوري، باستخدام وسائل إكراه، على وقف إجرامه بحق المدنيين، ودعم انتقال للحكم في سورية إلى حكمٍ يحترم حقوق الإنسان وحسن الجوار”. كما حدّد شروط رفع هذه العقوبات: وقف القتل، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، رفع الحصار والعزل عن المناطق السورية، عودة آمنة وكريمة للسوريين إلى منازلهم، تقديم مرتكبي جرائم الحرب إلى العدالة الدولية.. إلخ. ووضع لها مدة خمس سنوات قابلة للتجديد في حال لم تنفذ الشروط السابقة. وهذا جعل لـ”القانون” نتيجتين قاسيتين: عقوبات على الجناة وردع للداعمين الجدد، ما يعني عزل النظام السوري ومحاصرته.
انطوى “القانون” على خطواتٍ وإجراءاتٍ حازمةٍ إنْ لجهة معاقبة النظام السوري على استخدامه القوة ضد المدنيين بالقتل والتدمير والتشريد بشكلٍ واسعٍ وممنهج، أو لجهة معاقبة الدول والمنظمات التي تساعده، أو ستساعده مستقبلا، في حربه، أو تقدّم له الدعم العسكري، أو الاقتصادي أو المالي أو النفطي، أو تنفتح عليه سياسيا ودبلوماسيا. عقوبات وصفت بالقاسية والمؤثرة ستجعل الوضع في مناطق سيطرة النظام أكثر سوءاً وعرضةً لهزّات وعدم استقرار، وفق مسؤولين غربيين، وتضع، إنْ نفّذت، النظام وداعميه أمام خيارين لا ثالث لهما: تحمّل العقوبات وتبعاتها القاسية أو الانخراط في مفاوضات سياسية جادّة، والقبول بإصلاحاتٍ سياسيةٍ تلبّي تطلعات السوريين.
ولكن قراءة متأنية ومدققة في طبيعة “القانون” وتفاصيل المشهد السياسي الإقليمي والدولي، ومصالح الدول والقوى السياسية المنخرطة في الصراع على سورية، وتعارض مواقفها وتناقض أهدافها، ستقود إلى استنتاجٍ أوّلي مفاده بأن التفاؤل بتحقيق نتائج كبيرة ليس منطقيا ولا موضوعيا، لاعتبارات أميركية ودولية، فالإدارة الأميركية عالقة في ملفات داخلية ساخنة من إجراءات عزل الرئيس إلى الجدل الحاد حول احترام المؤسسات وتقديراتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعمل وفق محدداتها، مرورا بالخلاف حول ملفات التجارة الدولية والمناخ والعلاقة مع الحلفاء على الجانب الآخر من الأطلسي. كل هذا والبلاد على أبواب انتخابات رئاسية، ما أضفى على الوضع الداخلي حالةً من الارتباك والتوتر، وجعل فرص التفرغ لملفات خارجية محدودةً، ما لم يكن صالحا لخدمة مواقف داخلية حلا أو تمويها أو مشاغلة. يضاف إلى ذلك عاملٌ شديد الأهمية والخطورة، وهو التناقض الفجّ الذي يعتور السياسة الخارجية الأميركية بين حاجتها للحلفاء وللقوانين الناظمة للنظام الدولي السائد، وهو نظام أميركي بشكل رئيس، والتي تعزّز التحالفات والتنسيق والتعاون، وبين سياسة الإدارة الحالية ودورها في تقويضه وتدمير مرتكزاته بتجاهل محدّداته والعمل على الضد منها؛ وتجاهل توجهاته وقراراته، والعمل على تجويف أجهزته وهياكله عبر تبنّي مواقف واتخاذ قرارات تعارض قراراته أو تجاهلها وعدم السعي إلى تطبيقها، ومد ولاية القانون الأميركي خارج الحدود الأميركية، فالكونغرس الأميركي يتصرف باعتباره حكومة العالم، وفق الكاتب اللبناني، حسن منيمنة، وإعطاء أولوية مطلقة لتحقيق المصالح الأميركية، تنفيذا لشعار “أميركا أولا”، واتخاذ مواقف وقرارات ضد الحلفاء والخصوم على حد سواء، من دون اعتبار أو التفات لمستدعيات التحالف أو لضرورات توازن المصالح الدولية في ضوء الاعتماد المتبادل وتبادل المنافع الذي فرضته التحولات في مجالات العلم والاختراع والإنتاج.
في الوقت الذي يستدعي فيه تنفيذ “قانون قيصر” تعزيز التحالفات وتمتين الصداقات؛ من أجل توفير مناخٍ يساعد على مواجهة طيفٍ واسع من الدول والقوى والتنظيمات السياسية والمسلحة المنخرط في الصراع على سورية إلى جانب النظام السوري؛ تقوم الإدارة الأميركية بتفكيك عرى التحالفات وتمزيق الروابط التاريخية مع الحلفاء بفرض عقوبات اقتصادية عليهم، بذريعة عدم توازن العلاقات التجارية معهم، وبوضع قيود وشروط مالية على مساعداتها لهم ضد الأخطار التي تهدد أمنهم الوطني، حيث لا يمكن تنفيذ عقوبات حازمة وقوية ومؤثرة ضد النظام السوري وداعميه، من دون توفير مناخ إقليمي ودولي مواتٍ يلعب فيه الحلفاء والأصدقاء دورا مساعدا، أو عدم خرقهم هذه العقوبات على أقل تقدير، ما يستدعي تعاونهم ومشاركتهم؛ وهذا يستدعي أخذ مواقفهم ومصالحهم في الاعتبار، وقد زاد الطين بلّة صدور “القانون” ضمن قانون ميزانية وزارة الدفاع (البنتاغون) المعروف باسم “قانون إقرار الدفاع الوطني” الذي تضمن عقوباتٍ على الشركات التي تشارك في بناء خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي “نورد ستريم 2” الذي يصل إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، مسّت شركات ومصالح دول حليفة، ما وتّر الأجواء وعكّر العلاقات، وأثار حفيظة دول أوروبية حليفة (رفضت الحكومة الألمانية العقوبات الأميركية التي وصفتها بأنها “عقوبات عابرة للحدود”، كما حذّرت واشنطن من التدخل في شؤونها)، بالإضافة إلى التناقض الفاضح بين سياسة الإدارة المعلنة بالانسحاب من المناطق الساخنة والحروب المجنونة والإبقاء على قوات لحراسة النفط السوري وحمايته واستثماره في تغطية تكلفة انتشار هذه القوات وتمويل الحلفاء في “قوات سورية الديمقراطية”.
لقد قاد ربط “القانون” بميزانية الدفاع ومواجهة خصوم الولايات المتحدة إلى تحويله إلى بندٍ في الصراع مع القوى الأخرى المنخرطة في الصراع السوري، والمناوئة للسياسات الأميركية والمنافسة لها في السياسة والاقتصاد والتسليح والتجارة؛ ما سيحدّ من فرص استثماره في صالح السوريين ويطيل معاناتهم، حيث ستفرض المنازلة الواسعة مع هذه القوى والمصالح الكبيرة التي تغطّي معظم الكرة الأرضية سلم أولوياتها وجدول أعمالها، وتفرض الربط بين الملفات والقضايا والمصالح وتصعيد المواجهة على الساحة السورية، للتأثير على ملفات وقضايا خارجها أو للتعبير عن موقفٍ ما، وتبليغ رسالةٍ إلى الخصوم، ما يمنح الأفضلية للملفات الأهم والمصالح الأكبر على حساب مصالح السوريين وقضيتهم، وما إفشال اجتماع اللجنة الدستورية والهجوم العنيف والمدمر على إدلب، والفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن ضد تمديد قرار إيصال الإغاثة إلى المحتاجين من السوريين، أربعة ملايين منهم في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، من منافذ حدودية لفرض تسليم المساعدات الدولية إلى الحكومة، وهي تتولى عملية توزيعها على المناطق، إلا مقدّمات أولية على طريق المواجهة المنتظرة. كما حدّت شمولية العقوبات وتشعباتها من جدوى استثناء المنظمات غير الحكومية التي تقدّم المساعدات في سورية، الطبية والإغاثية والخدمية، من العقوبات، فالعقوبات على البنك المركزي السوري والتحويلات المالية إلى سورية، ومنع استخدام الدولار في تمويل المشتريات سيشلّ قدرة هذه المنظمات على توفير احتياجاتها من المواد الطبية والأغذية والألبسة، فسِعة قوس العقوبات وقوة الردع الذي يسبّبه أي قرار من وزارة الخزانة الأميركية ستعيقان حركة المعاملات، سبق لقرار منع تحويل الأموال إلى سورية الإضرار بالمواطنين العاديين، حيث تعرّض آلاف السوريين لإغلاق حساباتهم المصرفية، أو رفض تحويل الأموال إليهم، وتجميد بعض الأرصدة بسبب جنسيتهم أو جهة حوالاتهم، ما دفعهم إلى تحويل الأموال عبر “نظام الحوالة” غير الرسمي (مكاتب وشركات بين سورية وتركيا مثلاً)، ما وضعهم تحت رحمة هذه المكاتب من ناحية أجور التحويل أو إجبار المتلقي على القبض بالليرة السورية، حسب السعر الرسمي للصرف، وإغلاق المكاتب المستقبلة على الأرض السورية الأخرى من أجهزة المخابرات. ناهيك عن الأذى الذي سيلحق بالمواطنين، نتيجة الضغط لمنع توريد النفط والغاز، لجهة حرمانهم من توفير وقود الطهي والتدفئة وخضوعهم لابتزاز تجّار الحروب برفع أسعار هذه السلع الضرورية ومعاناتهم الكبيرة نتيجة التقنين الحاد للكهرباء.
وضع “القانون” سلاحا اقتصاديا قويا في يد الرئيس الأميركي، وهو المغرم بعقد الصفقات والجري وراء المنافع المالية، ومنحه حقّ استخدامه ضد من يعتقد أنه يخرقه؛ وتفعيل “قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات” للي ذراع موسكو وبكين وطهران، وترويض أنقرة وبيونغ يانغ وكاراكاس، وتعزيز المصالح الأميركية في سورية بإضعاف خصومها فيها، فـ”القانون” جوزة فارغة لن تفيد السوريين، ما لم يوضع في سياق سياسةٍ هدفها الأول خدمتهم وتحقيق تطلعاتهم في الحرية والكرامة.
(العربي الجديد)