جسر: ثقافة:
تعتمد رواية الفئران أسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان شخصيتها الأساسية. مكان الحدث هو أحد السجون السياسية في بلد عربي ما. المتحدث سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد، يصف عبر الرواية حالته وحالة السجن والسجناء المتعاقبين عليه بشكل دائم.
صاحبنا السجين يتحدث عن أنه لا يعلم لماذا اعتقل، وأنه مثل كثير من السجناء احضر إلى السجن وليس بالضرورة أن يكون هناك سببا ما لاعتقاله وسجنه. إنه في بلد الحاكم فيه هو القائد الأب المهيمن المقدس المسيطر على البلاد والعباد، يفعل ما يشاء، وليس أمام الناس، كل الناس، إلا أن تسبّح بحمده وتشكره، كإله على الأرض وفوق رقاب هذا الشعب. صاحبنا يحكي أن البلاد قد خرجت حديثا من حرب استمرت سنوات مع إحدى دول الجوار (يفهم ضمن السياق أنها الحرب العراقية الإيرانية)، وأن السلطة قد تنازلت عن جزء من الأرض للجار العدو، وأنه سقط في هذه الحرب الكثير من الشهداء سواء من الجنود أو من المدنيين، وهم بمئات الآلاف، وأن الخسارة الاقتصادية المصاحبة للحرب أعادت الناس إلى الفاقة والفقر، هذا غير المصابين والمعاقين والأرامل والأيتام والأسر التي فقدت معيلها، علما أن البلاد غنية بالنفط وموارد أخرى كثيرة، مع ذلك توّج القائد الحاكم نفسه بطلا على غرار صلاح الدين الأيوبي. هذا القائد، الذي يتحكم بحياة الناس عبر أجهزته الأمنية وجيشه وقمعه، جعل الشعب قطيعا وكل فرد فيه يصمت عن كل ما يعيش حفاظا على الحياة خارج السجون والمعتقلات. مع ذلك كان النظام يعتمد على السجون والمعتقلات كأحد مراكز تدريب وتأهيل أفراد الشعب على الطاعة والذل والعبودية وتقبل كل شيء في الدنيا، والانحناء لكل الظروف للاستمرار في الحياة. لذلك لم يكن غريبا أن يُعتقل صاحبنا دون أن يكون مسيّسا، ولا يُحسب على المعارضة، ولم يكن له أي نشاط مشبوه، مع ذلك اعتقل وأودع السجن، وبدأ يعيش التعذيب والإذلال والضرب والإساءة. يضعنا صاحبنا المسجون في أجواء غرائبية عن السجن وما عاش فيه من أهوال. لقد امتهن السجناء جميعا، جسديا ونفسيا بطريقة قاسية جدا جعلتهم مستسلمين لما هم فيه، خوفا من الأسوأ، لأن هناك دائما الأسوأ. هناك دائما مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح يقودهم عريف فظ يعذبهم دون كلل او ملل. ومن مستجدات ما حصل مع صاحبنا ومجموعة من السجناء، انه تم اختيارهم ليكونوا ضحية تجارب يقوم عليها السجّانون والمسؤولون عنهم، لاكتشاف درجة تحمّلهم، وقدرتهم على الصمود، وكيف يتم هدر إنسانيتهم بالكامل. اجتمع بهم مسؤول عسكري كبير، وأخبرهم أنه تم اختيارهم بإرادة القائد العظيم ليكونوا فئران تجارب لخدمة مصلحة الوطن والقائد، وأنهم محظوظون بذلك. بدأت التجارب عليهم عبر عزلهم في غرفة سجن كبيرة بأسرّة طابقية على الصفين، غذاؤهم قطعة جبن صغيرة يوميا لكل واحد منهم ترمى من سقف الغرفة، لذلك هم ضحية جوع دائم. شروط الحياة والنظافة سيئة جدا. ينتشر بينهم البق والقمل والجرب وأمراض أخرى. يتبارون بكمية القمل التي يفقصونها كل على حدة، دربوهم على استجابات لأوامر عسكرية مقترنة بحركات الكلاب ومصحوبة بالعواء لمزيد من الإذلال. وضعوهم في شروط حرمان جسدي جعلهم يتقبلون أن يلوط بعضهم ببعضهم، وبعلنية مقرفة. وتحضر جنديات يظهرن اجسادهن باشكال وحالات مختلفة، لمزيد من الاغراء والحرمان والإذلال. ألغوا أسماءهم الحقيقية وأطلقوا عليهم أسماء حيوانات. صاحبنا كان اسمه الواوي، هناك الفهد والثعلب والحمار والقرد والخفاش…إلخ. يحصل التعذيب الجسدي كل الوقت، تحت اعتبارات وهمية والمقصود إيصالهم لمرحلة الطاعة والتسليم الكامل. طالبوهم بالإساءة اللفظية والسلوكية لبعضهم البعض، هناك من لم يستجب، أولئك عذّبوا بقسوة حتى يستسلموا و ينفذوا المطلوب منهم. لقد تجرعوا المهانة والإذلال وفقدان الاعتبار الذاتي حتى لأنفسهم. السجانون يأخذون البعض دون عودة، وإن عاد البعض فقد كانوا ذاهلين من هول ما عاشوا، البعض يموت تحت التعذيب أو من شروط الحياة السيئة، الموتى يوضعون في أكياس القمامة ويأخذهم الجنود إلى جهة لا يعلمها السجناء. استدعي صاحبنا الى غرفة فيها ضابط كبير، أُخذ تحت الضرب والإهانة والإساءة. دخل، واجهه ضابط كبير بجواره مطرقة تدل على أنه قاض، وسأله بفظاظة هل تقر بذنوبك؟. أجاب مستغربا عن أية ذنوب تتحدث؟!، صرخ الضابط بمرافقي صاحبنا من الجنود، إنه لم يتأهل بعد، وحكم عليه بالسجن المؤبد. وهكذا أصبح صاحبنا شاهدا على أفواج من السجناء تأتي، يستمر البعض مسجونا، ويموت البعض ويخرج البعض، هكذا عاش كحجر داخل مجرى النهر يرى الماء يتدفق حوله، وهكذا حاله مع السجناء الجدد دوما. يرصد حالاتهم يسمع حكايايتهم. كان بعض السجناء القدامى يسجنون مرة أخرى، سأل أحدهم ما الذي فعلته يا مجنون حتى تعود لسجن تعرف ما مصيرك فيه؟!. اجابه هذا أفضل لي، الحياة في البلاد كلها خارج السجن ليست أفضل من الحياة هنا. وفي حديث مع أحدهم سأل صاحبنا لماذا لا تخرج من السجن؟، فيجيبه وكيف أخرج وأنا محكوم بالمؤبد؟!، يجيبه السجين الآخر وإن يكن هذا السجن وهم، وجداره من ورق، وما صورة القائد المالئة للحائط إلا خدعة، جرّب الخروج من الحائط وستخرج. لم يقتنع صاحبنا، مع ذلك حاول التجريب، وفعلا خرج من حائط الوهم الورقي، وسار في ظلام دامس الى تجويف ليخرج من تحت الأرض، حيث كان سجنه مع الآخرين، وجد الناس كل مهتم بنفسه، إلى درجة أن لم ينتبه إليه أحد. كان عاري الجسد، ولا أحد يهتم بعريّه، وصل بيته، دخل البيت، لحظته زوجته، تأملته قليلا ومن ثم غادرته إلى شؤونها دون أي تعليق. هكذا وجد الناس بعد خروجه؛ لا يهتم أحد بأمر أحد حتى من أقرب الناس إليه. مع تقبل كل ما يعيشونه، مهما كان غريبا أو قاسيا أو ممتلئا بالظلم.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول:
– نحن أمام رواية أخرى جديدة تؤرخ للتعذيب السياسي، ولفعل الدول القمعية الاستبدادية التي استهانت بالشعوب وحيواتهم وكراماتهم. العشرات من الروايات، إن لم يكن أكثر، كُتبت حول هذا الموضوع، وكلها تطل على حالة القمع والتعذيب السياسي والإذلال، معبرة عن ظروف الدول العربية وحكّامها المستبدين وأساليبهم المتنوعة من المحيط إلى الخليج، للأسف.
– الرواية كتبت في 2006، والكاتب عراقي، والإيحاء فيها عن السلطة العراقية والشعب العراقي وظروف الاعتقال السياسي هناك، وكيف نفهم ان هذه الأنظمة التي تقمع شعبها وتستعبده، وتوظّفه في حروب عبثية تؤدي لموت الناس وخراب البلاد، كما حصل في العراق التي احتلها الأمريكان في 2003. لقد قدم النظام الذريعة للأمريكان لاحتلال العراق والوصول لما وصل إليه بعد ذلك إلى عامنا هذا 2020، حيث يتحرك الشعب العراقي مجددا مطالبا بحقوقه في دولة ديمقراطية تصون حقوقه وكرامته، وتطرد جميع أنواع الاحتلالات من إيران والأمريكان.
أخيرا: لقد كان الربيع العربي الذي أزهر في اوائل 2011، والمستمر للآن في موجات متتالية في كثير من البلدان العربية، هذا الربيع الذي أكد أن الشعوب العربية حرّة وعصيّة على الاستعباد، وستبقى تتحرك منتصرة لإنسانيتها ولتسقط دول القمع والاستبداد، وتلغي هدر الإنسان وتبني أوطانا تنعم بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الأفضل.