جسر: متابعات
من خلال ما سرده “فواز حداد، في روايته جنود الله” من الذي لا يرغب بفقدان ذاكرة رأت وعايشت وشهدت كل هذا الجنون والمذابح والتفنن والتنافس في التعريض بالجثث البشرية؟! لكن تلك الذاكرة التي تحمل كل هذا الكم من المآسي تأبى إلا أن تعاود ما خلقت له، التذكر. تخور قواها سريعا أمام قسوة ما تحمله تلك الذكريات. لذا وإن كان بطل”جنود الله” قد تعمد نسيان اسمه، لكن هذا النسيان لم يستطع الصمود أمام اجتياح بقية المآسي.
ليس من سمع كمن رأى
منذ أن سقط النظام العراقي بعد الغزو الأمريكي أصبح العنوان الرئيس الذي تطالعنا به بالأخبار التي تأتي من العراق، أخبار أعداد القتلى والجرحى و الانفجارات التي غدت حدث روتيني ضمن الحياة اليومية في العراق. لكن هذا ما نسمعه فقط لكن ما خفي كان أعظم، وهذا الأعظم اطلعنا على شذرات منه الروائي السوري فواز حداد في رواية”جنود الله” والتي دارت أحداثها بين العراق وسوريا والتي لم تختلف،لاحقا، أخبارها عن ما يأتي من العراق.
يسرد أحداث الرواية البطل والذي لم نعرف له أسم ولم يعين الكاتب له أسم طوال الرواية، تبدأ الأحدث بالبطل الراوي، الذي كان قادما بطريقة التهريب من الحدود العراقية إلى الحدود السورية برفقة بعض الجنود الأمريكان الذين انقذوا حياته بعد أن اجتاحوا قرية كانت جماعة من تنظيم القاعدة في العراق متواجد فيها. وكان البطل(الذي لا اسم له) في رحلة بحث عن ابنه”سامر” الذي لم ينضم إلى التنظيم فحسب بل وأصبح واحدا من أهم القيادات فيه. في أثناء الرحلة رُوع بما رأي من الانفجارات الجثث والأشلاء والموت الذي لا يهدأ منجله في حصد الأرواح بالعشرات. حتى أنه وصف العراق في أحد رسائله إلى محبوبته”سناء” بأنه” البلد الذّي يغيب فيه العقل، المنطق، العدالة والرّحمة، لتزرع مكانهم الوشاية، الخيانة، الظّلم، القهر، الخطف، الذّبح والقتل على الطّائفة والدّين والهويّة والاسم.” وهناك أيضا تلك الفرق التي تتنافس فيما بينها عمن سيبدع أكثر في طرق التمثيل بجثث القتلى الذين لا ذنب لهم سوى وقوعهم في تلك البقعة من العالم وسط كل هذا الجنون. في رحلة الأب في البحث عن ابنه قابل أبو مصعب الزرقاوي، الأمير الذبّاح، والذي من كثرة ما اشتهر به من طرق لسفك الدماء وكثرتها ظن الناس أنه خيال إعلامي أمريكي وليس إنسانا حقيقيا.
دور أمريكا وشركاتها الأمنية في المجازر العراقية (بلاك ووتر)
كان واحد من أهم الأحداث في الرواية تلك، هو ذالك التحقيق الذي انغمس به أحد القادة العسكريين الأمريكيين، والذي كان سبب تعرفه في البداية على البطل”أبو سامر” حيث اتفق الاثنان على أن الأب يبحث عن ابنه بمساعدة الأمريكان ويسلمه لهم، وفي المقابل يضمنون له ألا يُعدم.
هذا القائد العسكري الأمريكي كان قد شُغل بقضية عن مجازر تحدث في أماكن مختلفة في العراق حيث تجد القوة الأمنية عائلة بأكملها مذبوحة، بل وتمّ التمثيل بجثثهم بطريقة مروعة ومرعبة، وبالبحث عمن وراء هذه المجازر اتضح أنهم العسكريون من شركات الأمن الخاصة التي تتعاقد معهم القوات الأمريكية الذين يعلمون تماما ما تقوم به تلك الشركات الأمنية من مجازر بحق المدنيين، لكن الأمريكيون يغضون الطرف عما يفعل أفراد هذه الشركات كي لا يخسروا تعاقداتهم. هذا الأمر يذكرنا بتلك القضية التي أثيرت في العام 2007(فضيحة شركة بلاك ووتر) الأمنية. والتي ثبت أن أفرادها قاموا بعدة مجازر في العراق راح ضحيتها العشرات.
تنبؤ الرواية بظهور تنظيم داعش
في زمن كتابة الرواية لم تكن الأحداث في سوريا قد تمخضت بعد عن ظهور التنظيم الشيطاني (داعش) بتلك الصور التي تبلور بها التنظيم الآن لكن كانت الإرهاصات الأولى والتي بدأت في العراق حينما ذكر المؤلف إن هناك بعض الجماعات الدينية المتشددة(والذين قاموا باختطاف البطل وبيعه في الرواية) تلك الجماعات التي كانت تسيطر على بعض المناطق، كما سيطرت جماعات أخرى، كل جماعة وطائفة على منطقتها. تلك الجماعات كانت تحكم تلك المناطق حسب تصورها لمقولات الشريعة الإسلامية، فرجموا الناس وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، ورجموا الزانية والزاني، وغالوا وتشددوا في كل شي، هذه هي الجماعات التي زحفت فيما بعد إلى سوريا وكونت ما يعرف ب(تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. داعش)
تسلط الرواية الضوء على دور التناحر الطائفي في العراق، وأيضا أظهرت الرواية أنه على الرغم من صحة دور هذا الفصل الطائفي والتناحر في الشقاق وتدهور حال الدولة العراقية، إلا أن دور أمريكا كان أكبر كثيرا في خراب تلك الدولة من التناحر الطائفي والذي عمل الاحتلال على إذكائه وتضخيمه بما يخدم مصالحها.
وظهر هذا جليا في تلك الصفحات التي سردت كيف أن رجال الشركات الأمنية الأمريكية وبمعاونة من بعض العسكريين العراقيين السابقين، تعاونوا معا في القتل والذبح والتمثيل بالجثث والقيام بتفجيرات عديدة في مناطق السنة لاتهام الشيعة والعكس، وكل ذلك من أجل البحث عن أبي مصعب الزرقاوي الرجل الذي كانت رأسه تساوى 25 مليون دولار، كانت تلك قيمة المكافأة التي وضعتها أمريكا لمن يعثر على الزرقاوى، وبالتأكيد كان ضمن من تورط حتى بالتحريض في هذه المأساة رجال الدين، كما في شخصية القس الذي كان يحرض الجنود الأمريكان على قتل العراقيين على أساس أنهم بشر أقل شان من الأمريكان ولا يحق لهم العيش.
نمط السرد في الرواية
في الرواية، عاني البطل الذي لا اسم له من فقدان الذاكرة، وقد اعتمد في رحلة استعادته لتلك الذاكرة، والذي كان بإصرار ممن حوله أكثر كثيرا من رغبته هو شخصيا في تلك الاستعادة. وفي ذالك اعتمد على طريقتين كانا هما عماد السرد في الرواية: النمط الأول كان الصديق”حسان” وكان حسان هو رفيق درب البطل منذ أن كانا بالمدرسة الثانوية، وظل”حسان” يمثل حافظ الذكرى وراويها للبطل، ذكّره بأيام الدراسة والأحلام الاشتراكية والأفكار الإصلاحية والتي باءت جميعها بالفشل ولم يستطيع كلاهما إنقاذ العالم كما حلما وخططا. ثم ذكّره بعملهما في الصحافة، وكتابة المقالات والدراسات السياسية، وبعدها التحاقهما بالعمل في المخابرات السورية.
حسان الذي لم يتعرف عليه البطل في بداية لقائهما، لكنه شعر أن حسان مألوف بالنسبة له. حسان الذي أخذ على عاتقه مهمة تعريف البطل على من أوقعتهم الذاكرة من الطليقة والحبيبة والابنة.
أما النمط الثاني للسرد، والذي كُتبت به أغلب صفحات الرواية هو(كتابة الرسائل) وكانت تلك عبارة عن رسائل إلكترونية على(البريد الإلكتروني) والذي كان يرسلها البطل إلى عشيقته”سناء” والذي كان يخطط بالزواج منها وكانت تحمل طفله الذي حلم أن يعوض في تربيته تقصيره في تربية الابن الأول.
كانت رسائل البطل إلى”سناء” عبارة عن وصف للكثير من الأحداث اليومية التي كانت تحدث بالعراق أثناء إقامة البطل فيها، ومن تلك الرسائل رأينا رحلته منذ دخوله العراق بأوراق تكفل الأمريكيون بتزويرها على أنه أحد المعاونين لهم، وإقامته في المنطقة الخضراء، وحادث اختطافه، وكيف رأى الله في محبسه بعد أن كان قد نسيه تماما وكانت تلك أحد أهم الأفكار التي فرقت بينه وبين ابنه، ومن الرسائل عرفنا كيف تغير الابن؛ حتى صار عدوا. ومنها عرفنا بعضا من الكواليس حيث يدار العالم أو بعض مناطق الصراعات لصالح مناطق أخرى أو حتى لأجل مصالح أناس آخرين.
المصدر: مجلة مصر المحروسة