جسر – متابعات
نشر موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) اليوم الأربعاء تقريراً مطولاً، يحتفي بنجاح العداءة السورية مبتورة الساق ديما الأكتع، في مجالي الرياضة ومساعدة اللاجئين.
يقول التقرير إنه في شهر مايو/أيار عام 2020 كان المشي مسافة نحو ميل واحد على ساقها الاصطناعية هو التحدي الذي خاضته ديما الأكتع للمساهمة بجمع تبرعات لمساعدة اللاجئين في المخيمات في اليونان خلال ذروة انتشار وباء كورونا، وفي غضون عام واحد فقط كبر التحدي ليصبح الجري 21 كيلومترا لمساعدة أطفال لاجئين في الحصول على أطراف اصطناعية.
لم يكن الأمر سهلا في المرتين على الشابة السورية التي يبلغ عمرها 27 عاما، فساقها اليسرى مبتورة من أعلى الركبة، لكنها مع ذلك شعرت بسعادة غامرة.
فعندما شاركت عام 2020 مع منظمة “تشوز لوف”، ضمن مبادرة عالمية للمشي بهدف جمع التبرعات للاجئين، أحست ديما بأوجاع هائلة بسبب ساقها الاصطناعية غير المؤهلة، زادتها معاناتها من احتباس الدم عند مكان القطع. لكنها رغم ذلك تابعت المشي، لتقطع أكثر من 2 كيلومترا، رغم أنها كانت قد تعهدت بالسير في منطقتها لميل واحد فقط، ما يعادل حوالي 1.6 كيلومترا.
في المرة الثانية، كانت في غاية الحماس، رغم أنها اضطرت للتوقف عدة مرات لتخلع الطرف الاصطناعي الجديد الخاص بالجري، وتجفف العرق الذي يسيل من ساقها، بل واستعانت بقطع من الثلج بعد أن شعرت أن الساق الاصطناعية تكاد تفلت من مكانها.
لكنها حققت الإنجاز ووصلت إلى خط النهاية.
ولم تكن وحدها، كان معها مجموعة من الأطفال بأطراف مبتورة، تخيلت أنهم يشاركوها سعادة الجري “الأشبه بالطيران، على تلك الساق الاصطناعية (الشفرة)” كما تقول.
وتضيف ديما “حين عبرت خط النهاية، كانت مشاعري مرتبكة ومتناقضة. كنت فرحة جدا، فخورة، وحزينة في الوقت نفسه… كنت أركض لأول مرة منذ الحادث، ومن دون تدريب. لكنني فعلت ذلك لأجل الأطفال. أريد أن أجنبهم ما عانيت. كنت غير مصدقة تقريبا. وكأنني في صدمة. وأحتاج حضنا لأبكي. لكن لم أستطيع أبدا أن أبكي”.
كانت ديما سابقا عدّاءة تشارك في سباقات جري في بلدتها في سوريا قبل أن تتغير حياتها. وبينما تغمرها سعادة كبيرة بالعودة إلى ممارسة الرياضة التي تحبها، يبقى جمع التبرعات من أجل عدد كبير من الأطفال الذين خسروا أطرافهم جراء الحرب في سوريا، أولويتها وحافزها الأكبر.
تقول: “أكثر ما يؤلمني أن يُحرم طفل من أبسط حقوقه بممارسة حياته بشكل طبيعي. طفل صغير عمره 5 أو 6 سنوات لا يمكنه أن يفهم لماذا هناك أشياء لا يستطيع القيام بها مثل الباقين؟ أو لماذا يقال له أنت لا يمكنك فعل ذلك لأن ساقا أو يدا تنقصك؟”.
كيف بدأت الحكاية؟
بدأت حكاية ديما عام 2012، كان عمرها 18 عاما حين هزّ منزل عائلتها في بلدة سلقين في ريف إدلب صوت انفجار، وخشيت أن تكون قذيفة أصابت الغرفة التي توجد بها أختها الصغرى، فهرعت للاطمئنان عليها. ولفرحتها، كانت أختها بخير، لكن في اللحظة التالية سقطت قذيفة على المنزل، واقتضى الأمر دقائق لتدرك ديما أنها فقدت ساقها اليسرى. تدّمر البيت، لكن عائلتها نجت، وهذا هو الأهم بالنسبة لها، كما تقول.
أقرب مستشفى كان على بعد ساعة ونصف. أخذوها في سيارة وهي تظن أنها لن تكمل الطريق حية، وأجروا لها عملية بتر مستعجلة هناك، وبعد أسبوع فقط كان لا بد من مغادرة المستشفى المكتظة.
لاحقا غادرت ديما سوريا مع عائلتها إلى لبنان، حيث أصبحت لاجئة ومعها عكازيها. مرت خمس سنوات قبل أن تحصل العائلة عام 2017 على حق اللجوء في بريطانيا، عن طريق برنامج إعادة التوطين الذي أطلقته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وتنتقل إلى بلدة فليتويك في مقاطعة بيدفوردشاير في إنجلترا.
بهذا بدأت مرحلة جديدة من حياة ديما. لغة غريبة، ومكان غريب، لكنها قررت أن تجعلها بداية مشرقة.
كانت قد حصلت على ساق اصطناعية، وإن لم تكن مثالية. وبعد انتقالها إلى بريطانيا بفترة قصيرة تطوعت في مدرسة للأطفال في منطقتها، وكانت تحكي للتلاميذ قصتها كمثال لما يدرسونه في حصة التاريخ عن الحروب وأثرها على مصائر البشر، وقاد ذلك إلى حصولها على عمل كمشرفة في فترة الغداء بنفس المدرسة.
اليوم، تدرس ديما التصميم الداخلي في إحدى الكليات. وقد تركت عملها مع الأطفال، الذين تحبهم جدا، بسبب وباء كورونا، كما أجرت عملية أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، أراحتها من الآلام المبرحة، وسمحت لها بارتداء ساقها الاصطناعية لمدة طويلة، وخصوصا إمكانية التدريب بالطرف الاصطناعي الرياضي.
الشغف بالجري ومساعدة الآخرين
تقول ديما إنها تتدرب أربعة أيام في الأسبوع وحدها، وتذهب مرة أسبوعيا إلى لندن حاملة الطرف الاصطناعي الخاص بالجري على ظهرها، في رحلة تستغرق ساعتين، لتتدرب مع مدرب خاص. وهي تنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
وتقول: “الشغف بما نفعله يسهل كثيرا من الأمور. التدريب مع الطرف الرياضي ليس سهلا، وعليّ بناء الثقة، وكيف تكون حركتي آمنة، كما علي تعلّم أسلوب الجري المناسب لحالتي، والذي له قواعد خاصة، ويجب تدريب العقل عليها، ولكنني أتطور يوما بعد يوم”.
وحين شاركت بنصف الماراثون في مدينة مانشستر في أغسطس /آب الماضي، كانت تلك المرة الأولى التي تركض فيها بعد عشر سنوات، وأول تجربة لها بالطرف الاصطناعي الرياضي.
لم تكن قد تدربت قبلها، لكن حين تواصلت معها جمعية “سوريات عبر الحدود”، التي تساعد المصابين وتوفر عمليات للأطفال الذين بترت أطرافهم في الحرب السورية، وطلبت منها المشاركة في الجري لجمع تبرعات، وافقت على الفور ومن دون أن تعطي نفسها فرصة للتفكير.
وتقول: “أرجو أن نتمكن من جمع مزيد من التبرعات وتأمين أطراف للأطفال لكي يتمكنوا من متابعة حياتهم بشكل أكثر طبيعية. هدفي إيصال المساعدات لمن يحتاجونها بشدة. وأتمنى أن يستفيدوا منها مهما كان الأمر صغيرا وبسيطا. بمساعدة بعضنا يمكن بناء مجتمع سلام. هذا يصنع فرقا في حياة الإنسان على الصعيد النفسي والمعنوي والعملي. تشجيع شخص لكي ينجح. يعني لي الكثير، وأشعر أن نجاحه هو نجاحي”.
تحدي الذات يعني لها الكثير أيضا، وقد أصبح عنوان حياتها التي عليها مواجهتها بطرف اصطناعي كما تقول. حين تضعف قوتها لا تستسلم، “أقول لنفسي لا. وأكمل”، فهي ترى أن تحدي الذات يصنع فرقا في الحياة، وهذا ما أتاح لها اختبار قوتها في مواقف صعبة، واستيعاب ما يواجهها.
تحويل الخسارة إلى أمل ودافع
ترى ديما أنه رغم الاختلافات الشخصية، فكل شخص، ومن دون أن يقارن نفسه بأحد، لديه القدرة على أن يحول الخسارة إلى شيء مفيد. “الخسارة لا تعلمنا سوى اليأس والاحباط، وتشعرنا بعدم الجدوى. لا شيء يحدث في حياة الشخص من دون غاية، أو يمر هباء. هناك درس لتتعلمه، لكي تحول الخسارة إلى أمل أو دافع أو درس”.
تتحدث عن خسارتها قائلة: “في لحظة الخسارة عوضني الله بسلامة أهلي وأخواتي، وهذه نعمة كبيرة. هذا بالنسبة لي كسب هائل. ما زلت مع الذين أحبهم، وما زلت أنا، وإن اختلف شكلي قليلا”.
ترى يما أن هذا “جعلني أكتشف نفسي من جديد، أكتشف قوتي الداخلية، وصمودي أمام المواقف الصعبة التي واجهتني، ولا تزال. كنت سابقا هادئة جدا. وإذا تعرضت لإساءة أسكت. اليوم، أناقش، وأستمر في المواجهة. لم أكن فتاة يشي وجهها بقوة داخلية وثقة بالنفس كما أنا اليوم. أصبحت أواجه أصعب الأمور ببساطة لا يمكن تخيلها”.
وتضيف: “تساءلت في البداية هل أنا قادرة على أن أعيش برجل واحدة؟ وقد قدرت، وصبرت، وحاولت، وفشلت، وانكسرت ولكن كان لدي دائما ثقة بنفسي، وبأن الله اختار لي الأفضل”.
وللشباب الصغار الذين يجدون أنفسهم في مواقف صعبة، أو الذين خسروا أجزاء من أجسامهم. تقول ديما “أتمنى أن يحاول كل منهم البحث عن المخرج الذي يجد به نفسه. هناك لا شك تعويض ما، ويمكن أن يُفتح لك طريق جديد لتحقيق أحلامك. يجب أن نثبت للعالم وبالذات للأشخاص الذين حولنا أننا قادرون”.
وهي لا تنكر أن هذا ليس سهلا، وتقول “لأكون صريحة، لقد فقدت جزءا غاليا جدا من جسمي، وأصبحت في موقع تعلم المشي من جديد. لكنني اعتبرت نفسي أتعلم شيئا جديدا، كما أنني أحصل على خبرة جديدة عن الأطراف الاصطناعية وكيف يصنعونها، وكيف تعمل؟ أردت أن أثبت للذين قالوا لي كيف وأين ستركضين بساق واحدة؟ أنني قادرة”.
وهي ترى أن الشعور بالحزن حق طبيعي، وكذلك المرور بفترات الاكتئاب. لكن المهم كما تقول “أن لا نسمح لأنفسنا بالوصول إلى مرحلة اليأس الحقيقي، لأننا حينها إن حاولنا شحذ قوانا من جديد، سيحتاج العقل إلى فترة لكي يعطي النتيجة التي نسعى إليها. علينا أن لا نعطي الأمر أكثر من حجمه الطبيعي”.
ذوو الهمم
ترى ديما أن نظرة المجتمع لذوي الهمم، الذين ترفض تسميتهم بذوي الاحتياجات الخاصة، أصبحت أكثر انفتاحا إلى حد ما بوجود الملايين من ذوي الهمم، وقصص نجاحاتهم. وتقول إنهافخورة بهم جدا وبكونها منهم.
لكن، لا يزال على المجتمع الكثير ليتعلمه ويتداركه، وهي ترى أن نظرة الشفقة وكلمة ‘يا حرام’، سواء إن نطقت أو ظهرت في نظرة العينين، ليست لطفا أو تعاطفا، وإن كان الدافع حسن النية. ورسالتها هي “ابنوا معهم الثقة بأنفسهم وشجعوهم. أشعروهم بأنهم لا يختلفون عنكم بشيء. الدعم النفسي أهم من المادي، وأتمنى أن نجده أكثر في مجتمعاتنا”.
وتؤكد “نحن متماثلون. قد نختلف بالشكل، لكن لدي عقل كما لديك عقل، ولدي قلب كما أنت لديك قلب، أشعرني بأنك تقبلني كما أنا”.
وتضيف: “يقول واحدنا لنفسه أنا لم أختر بإرادتي أن أفقد ساقي، أو أولد بشكل مختلف، أو أتعرض لحادث يفقدني أطرافي”، وهناك تحديات مع النفس تواجه ذوي الهمم، بمعزل عن المجتمع والآخرين، وأسئلة كبيرة بينهم وبين أنفسهم، كما تفسر ديما، وكثيرون يكتمون مشاعرهم، ويعانون جراءها رغم البسمة التي قد تكون على وجوههم.
‘اليوم أحب نفسي أكثر’
كانت ديما فتاة عادية، طموحها أن تدخل الجامعة، وتتخرج وتجد عملا، وتنجح في مهنتها. كانت تحب الجري والمشاركة في المنافسات، لكن ذلك لا يشبه شغفها به اليوم، ولم تكن أبدا بالتصميم الذي هي عليه الآن.
وتقول: “أنا اليوم أحب نفسي أكثر، وسعيدة داخليا، لم أكن هكذا سابقا. اكتشفت بعمر 18 سنة بعد خسارة ساقي أنني أكثر راحة مع نفسي، صرت أقدّر الأمور حق قدرها، وأناقش، وأعبر عن رأيي. أصبحت أكثر نضوجا وتفهما للآخرين بكثير. وهذا لا يعني أبدا أنني لم أمرّ بمطبات ولم أسقط فيها”.
وتقول، نور، وهي الأخت الصغرى التي خافت ديما على سلامتها عند سقوط القذيفة على منزلهما في سلقين “لم تتغير ديما كثيرا، دائما كان التصميم واضحا في عينيها، لكن الآن يمكنني القول أن أداءها وتعاملها مع الأشياء أفضل بشكل واضح”.
تعلمت ديما أن تلجأ إلى المزاح في مواجهة أمور مؤلمة، ومن الأمثلةـ أنها خلال إقامتها في لبنان، كانت مرة تتدرب على المشي على العكازات في الشارع حين صادفت رجلا عجوزا، تقول “سألني: ‘شو صار معك ياعمي؟ بعدك صبية صغيرة’. فأجبته ضاحكة، أحسست أن لدي ساقا زائدة فتخلصت منها”.
بالتأكيد واجهت الشابة تحديات، والتقت أشخاصا “لا أتمنى أن أتذكرهم”، كما تقول سواء “بمواقفهم معي أو بنظراتهم إلي. سابقا لم أكن أستوعب ذلك، ولا أعرف كيف أرد. لكن مع الأيام، وإعادة اكتشاف النفس يصبح بمقدورك تفهم الآخر، وهذا مهم جدا. ولكن، احتجت وقتا طويلا كي أصل إلى مرحلة أعتبر فيها أن ما قيل لي صدر عن حسن نية، ولم يكن الأمر سهلا”.
بالمقابل التقت ديما أشخاصا رائعين واستمدت منهم القوة والدعم، وبعضهم قدموا لها مساعدات لا تنسى، وساهم ذلك في إصرارها على تقديم أي مساعدة ممكنة لمن يحتاجها، فقد اختبرت بنفسها شعور من ينتظرها، وكذلك فرحة الحصول عليها.
تفاؤل وطموح المشاركة في الألعاب البارالمبية
ديما متفائلة بالمستقبل، وتأمل في أن تمكنها وسائل التواصل الاجتماعي من إيصال رسالتها إلى أوسع نطاق، وخصوصا بما يتعلق بشاغلها الأكبر، وهو جمع التبرعات وإيصال المساعدات إلى أكبر عدد ممكن من الذين يحتاجونها.
على الصعيد الشخصي ما تزال كالسابق تريد أن تكمل دراستها وتتخرج وتجد عملا، لكنها الآن تأمل أيضا في تحسين الطرف الاصطناعي الذي ترتديه ليصل إلى أفضل حالة ممكنة.
ولكن اليوم، لديها أيضا هدفها الأغلى، وهو متابعة الجري والتدريب، وتحقيق حلم المشاركة في الألعاب البارالمبية. وقد يكون ذلك عام 2024 في باريس، من يدري؟
وتقول نور، التي أصبحت اليوم في الثانية والعشرين من عمرها “كلما رأيت ديما تركض أو تتمرن أشعر بغبطة وكأنني فوق القمر. سأكون دائما بجانبها، نحن ندعم بعضنا باستمرار، وفي أيامها الصعبة كنت أقول لها، يوما ما سيؤتي جهدك الشاق ثماره. إنها بطلتي وأنا فخورة جدا بما تفعله، لسنا فقط شقيقتان، إنها أقرب وأحب صديقة إليّ”.