ياسين الحاج صالح
جرى كتم صوت سميرة منذ سبع سنوات. لدى المرأة الغائبة ولا شك قصص كثيرة لو أتيح لها الكلام، قصص يخشى مغيِّبوها وكاتمو صوتها أن تصير بمتناول عموم السوريين وشركائهم. لا أحد يستطيع رواية قصة سميرة بعد الغياب غيرها هي، لكن قصة سميرة قبل الغياب تستحق أن تروى وتُستعاد ما دامت غائبة. إنها قصتنا، قصة كفاحنا المحبط والمرير، قصة سورية.
يصادف أننا مُسجَّلا الميلاد في الأوراق الرسمية في أول يومي شباط. ميلادي أنا غير صحيح قطعاً، لكن سميرة بالفعل من مواليد 1 شباط 1961. تنحدر الأسرة من المخرم الفوقاني من قرى ريف حمص الشرقي، إلا أن سميرة ولدت في السويداء، بفعل تنقل الأب في عمله كشرطي. سميرة هي الرابعة بين أربع بنات وخمسة شبان. أمها كانت «ست بيت»، متفرغة للعناية بأسرة من أحد عشر فرداً. عاشت الأسرة معظم الوقت بين المخرم ومدينة حمص، وبعد تقاعده استقر الأب والأم في القرية، وظل البيت هناك بيت الجميع يقصدونه في العطل والأعياد، فيما استقر أكثر الأبناء والبنات في حمص بعد الزواج. هذا منوال مألوف في سورية. أَنحدرُ من عائلة مماثلة في العدد، وفي المنبت الريفي، وفي تقسيم العمل الجنسي، وفي استقرار الأبناء في المدينة الأقرب، الرقة في حالتنا، مع الحفاظ على بيت في القرية. هناك فوارق هي من نسيج الحياة المتغاير.
بعد الثانوية سجلت سميرة لدراسة الأدب الفرنسي، لكنها لم تكد تتقدم في الجامعة. في أوائل عشرينات عمرها انتسبت في مدينتها حمص إلى حزب العمل الشيوعي المعارض للنظام ونشطت في صفوفه. ومثلها فعلت فاطمة أختها، وبسام ابن عمتها، وأصدقاء ومعارف من الوسط نفسه. تزوج بسام وفاطمة قبل أن يُعتقل الثلاثة في عام 1987 في حملة واسعة لتصفية التنظيم. نُقل الجميع إلى دمشق حيث تعرضت سميرة للتعذيب أثناء التحقيق، مثلما هو الروتين المستقر في «سورية الأسد».
أُحيلت سميرة بعد ذلك إلى سجن النساء في دوما مع العديد من رفيقاتها، وهناك ستكمل أربعة سنوات ونيف قبل أن يفرج عنها مع رفيقاتها يوم 26 تشرين الثاني 1991. بعد الخروج من السجن استحدثت الشريكات تقليداً سنوياً بالاحتفال معاً في مطعم دمشقي بهذا اليوم.
فاطمة لم تكن طوال الوقت في سجن دوما، ولم تُضَمَّ إلى سميرة حتى قبل نحو عام من الإفراج عنهما. وكان هذا مصدر مشقة للأسرة مثل ألوف الأسر السورية في عقدي القرن العشرين الأخيرين. تنقسم الأسرة مضطرة إلى قسمين، بل ثلاثة، لزيارة سميرة وفاطمة وبسام. بالمقارنة، كان سوء حظ أقل أن حُبس أخواي في سجن حلب المركزي نفسه الذي سبقتهما إليه. هذا وفَّرَ على أهلنا مشقة كبيرة.
في إحدى الزيارات وصلت لسميرة وفاطمة كلمات من أبيهما: بناتي، الإنسان موقف، وإنتو اخترتوا موقفكن، فاثبتوا عليه! كانت سميرة تستذكر هذه الكلمات بفخر، وتسعد بأن كروزات دخان الحمراء كانت تأتيها من الأب الذي لم تكن دخنت في حضوره قط. ظلت سمور مثابرة على دخان الحمراء طوال السنوات.
لم يكن حال سميرة وفاطمة مختلفاً في شيء عن حال الألوف من أمثالهنّ، ولا كانت حال أسرتهن مغايرة لحال أسر كثيرة مماثلة. لم تنتفعا من منبتهما العلوي وحَرِصتا على ألا تنتفعا. عشن كما يعيش معظم السوريين من المرتبة الاجتماعية نفسها.
بعد خروجها من السجن كانت فاطمة تزرو بسام، زوجها، الذي قدم إلى محكمة أمن الدولة العليا في 1992 ونال حكماً بثماني سنوات. وكانت سميرة تبحث عن عمل، وقد عملت هنا وهناك لتعيل نفسها، ثم تعلمت أساسيات الكمبيوتر في سنوات النصف الثاني من التسعينات مثل كثير من الشابات والشبان السوريين في ذلك الوقت. هذا مؤهل قد تستفيد منه امرأة ثلاثينية، عاطلة عن العمل، وسبق أن كانت سجينة سياسية. وبالفعل تسنت لها فرص لتنضيد وتنسيق المعلومات على الكمبيوتر، لكن في دمشق التي انتقلت سميرة للعيش فيها، في مواجهة مقاومة عائلية قوية، وإن تكن متوقعة في البيئات السورية. كان هذا فعل تحرر شجاعاً، حقاً في الاستقلال وتقرير المصير، صنع المثال لجيل أصغر من البنات في العائلة. في العاصمة عملت سميرة في مكتب جريدة الخليج الإماراتية في عام 1999. أقامت في ذلك الوقت في بيت صديقة ورفيقة نضال وسجن لها، ناهد بدوية، كان شريكها، سلامة كيلة، معتقلاً في ذلك الوقت. وهناك التقيتُ بسميرة لأول مرة. زرنا معاً برفقة ناهد معتقلاً كان خرج لتوه من سجن تدمر، أو بالأصح معسكر التعذيب في تدمر. وبعد خروج سلامة من السجن في عام 2000، استقلت سميرة في سكن متواضع، غرفة في بيت لعائلة دمشقية في مساكن برزة.
ولن يتكرر لقاؤنا قبل عام كامل، وكان في أول زيارة لي إلى دمشق (كنت لا أزال في حلب، أستأنف دراستي الجامعية) بعد خروج سلامة من السجن. جاء ذلك بعد موت حافظ الأسد بقليل. وقت رحيل الطاغية المؤسس، كانت أمها كاملة سليمان في زيارتها، وسميرة تستذكر قولها بهذه المناسبة: أنا خلّصت دموعي! لم تكن السيدة تريد أن تبكي سجان ابنتيها.
دعتني سميرة لزيارتها، وتناولنا في غرفتها طعاماً بسيطاً من إعدادها، مسقعة باذنجان، واتفقنا أن نتواصل. لم يكن لدى سميرة هاتف في غرفتها، ولم يكن لدي هاتف في مسكني المستأجر في حلب، لكن تدبرنا الأمر: اتفقتْ مع الجارة على أنه حين يرن هاتف البيت مرة ثم يفصل ثم يعاود الرنين فهذا الاتصال لها. وهذا ما كان.
لم يكن بيننا رباط خاص في هذا الوقت، لكن مودة وكلام. بعد شهر أو شهر ونصف، ربما كان هذا في أيلول 2000، عدت إلى دمشق، ودعوتها إلى الغداء في مطعم في مركز المدينة، وبعده شربنا شاياً في مقهى الروضة. كان في رفقة المرأة النحيلة الرقيقة ما يلمس القلب. بعد الغداء سألتُ رجلاً في الشارع عن شيء ما، أجاب، ثم سألني بدوره عن الساعة. رددتُ عليه مازحاً: يعني ما في شي لوجه الله! سميرة انفجرت ضاحكة. شيء ما قفز إلى الأمام بيننا بتلك الضحكة. تحول انجذابنا إلى قرب. كنا معتقلين سياسيين سابقين، بدخل متواضع، وبعمرين متقاربين، على أبواب الأربعين، يحاولان امتلاك حياة وينجذبان إلى بعضهما.
ننحدر، سميرة وأنا، من تنظيمين شيوعيين مختلفين، مع ما هو معتاد، ومحقق، من حساسية بين المتشابهين. لكن ينبغي القول إن الأمر كان وراءنا سلفاً. ليس لأننا طوينا الصفحة بعد فتحها، ولكن لأن الصفحة كانت وقتها مطوية غصباً عنا، والبلد بلا حياة سياسية وبلا نقاش وبلا تنظيم مستقل. كان ثمة مجتمع من المعتقلين السياسيين السابقين، ليس بدون مواريث متنازعة، لكن بمستوى منخفض من المنازعة وقتها. أراد كثيرون منا إعطاء فرصة للتعرف واللقاء والأخذ والعطاء. وكنا نحن الاثنين منهم.
صادف أن أنهيت دراستي الجامعية في خريف 2000 الذي كان بداية موسم «ربيع دمشق» القصير. كان استقر عزمي على الانتقال إلى دمشق، فيها أكون قريباً من سميرة، وربما أحظى بفرص أفضل للعيش من الترجمة والكتابة.
كانت سميرة لا تزال تعمل في مكتب جريدة الخليج، لكن يحصل أيضاً أن تعمل إضافياً في دار نشر ناشئة وقتها. كان سوق العمل لمن هن مثلها محصوراً في هذا المجالات الضيقة، ولا يكاد الدخل الشهري يتجاوز 5000 ليرة، تدفع سميرة منها 1500 ليرة أجرة سكنها المتواضع وتعيش بما بقي، أي بنحو 70 دولاراً في الشهر. لكن سميرة التي أرادت أن تحيا مستقلة كانت قادرة على أن تعيش بمثل هذا المبلغ وأقل.
أقمتُ بعد الانتقال إلى دمشق في مسكن يقيم فيه أخي خليل الذي كان نال لتوه الدبلوم في الفلسفة. كانت سميرة من أهل البيت منذ البداية، تقتضيها الرحلة من سكنها في مساكن برزة إلى سكننا في المنصورة على طريق الربوة نحو ساعة، وربما تقضي الليلة عندنا أحياناً.
تعرفت على أهل سميرة وتعرفت هي على أخوتي… لم تكن هناك رسميات منذ البداية. وفي حمص وجدت نفسي بين أهل وأصدقاء وشركاء. فاطمة وبسام، ونجاة وعفيف وبناتهما الوعد والوجد وآلاء، كنا عائلة واحدة. نجاة هي الأخت الكبرى لسميرة.
كان هذا قبل زواجنا في أيلول 2002.
تزوجنا بحفل بسيط حضرته أختا سميرة، نجاة وفاطمة، وأختي الوحيدة رفعة ورباح زوجة أخي الأكبر محمد، وقليل من أفراد العائلة الآخرين. كان مَسكَنُنا ضيقاً فاحتفلنا في بيت قريب لعلي العائد، صديقنا وقريبي، وعُدنا مشياً إلى المسكن بعد منتصف الليل.
بعد شهور انتقلنا من المنصورة إلى بيت في ضاحية قدسيا كان استأجره قبلنا الصديق المرحوم بسام يونس. كنا لا نزال نعارك لتدبر المعيشة، ونشارك في الحياة العامة بقدر المستطاع، ونُكوِّن شبكة أصدقاء ضمن مجتمع المعتقلين السابقين نفسه، أو ضمن أجواء ذات نفس معارض للنظام، ومنها فنانون كنا نعرفهم فقط من أفلام أو مسلسلات تلفزيونية، لكن كذلك من جيل شبان جامعيين كانوا في مطالع عشريناتهم، وهم يقتربون من الأربعين اليوم. لم تكن حياتنا أكثر مشقة من أشباهنا، لكنها لم تكن أسهل كذلك. كان علينا أن نشق دربنا لحياة تعاش ونحن في مطلع أربعينات العمر.
كنا معاً دوماً في منتديات «ربيع دمشق»، ولكل منا دوائر نشاط عام مستقلة أيضاً. سميرة نشطت في لجان إحياء المجتمع المدني لبعض الوقت، وكنت بدوري حضرت بعض اجتماعاتها قبل ذلك. شاركت سميرة في المناقشات التمهيدية لإعلان دمشق بيروت في شأن العلاقات السورية اللبنانية. بعد أحد الاجتماعات في بيروت دُعي المشاركون من قبل مضيفيهم اللبنانيين إلى الغداء، وكانت مائدة عامرة بأصناف من السمك. سمور التي لا تأكل السمك كان عليها أن تكتفي بلقمات من أطباق المازة دون أن تلفت الانتباه.
في صيف 2005 اتفقنا على أن تتخلى سميرة عن عملها في دار نشر لها مكتب في الحلبوني. لم تكن بيئة العمل سيئة ولا كان العمل مرهقاً، ولكن كان الوصول إليه صباحاً والعودة منه بعد الظهر إلى مسكننا في ضاحية قدسيا مشقة خالصة. يعرف السوريون الزحام المذل، صباحاً وبعد الظهر، على الميكروباصات التي هي وسيلة النقل الوحيدة للعموم إلى أعمالهم ضمن المدن وبين المدن وضواحيها القريبة. كان دخلي من الكتابة وقتها يتحسن وأخذ يكفي لمعيشتنا ويزيد. وبدأنا ندِّخر لشراء بيت يخصنا في محيط دمشق. وفي العام نفسه انتقلنا إلى بيت آخر في ضاحية قدسيا، ووقع على سميرة تأثيثه. حتى ذلك الوقت كان أثاث بيتنا مثل أثاث سكن طلاب الجامعة، لكن سمور جعلت من ذلك السكن بيتاً يُعاش فيه، وهو ما لم يكن ليتحقق في أي وقت لو جرى الاعتماد علي.
السنوات الخمسة قبل الثورة هي سنوات زوجين يقتربان من الخمسين، يعيشان لأول مرة حياة كفاية، في بلد قاسٍ ألِفا قسوته. كنا نقضي أياماً من كل عام في الرقة وفي حمص وفي اللاذقية وفي حلب. وغير ذلك في بيتنا في دمشق الذي كانت ترتفع أجرته إثر توسع اللجوء العراقي. وكانت لنا شبكة أصدقاء تعيش في مثل أوضاعنا.
بعد عام 2005، فرضت على نفسي روتيناً قاسياً من القراءة والكتابة، وكانت سمور سنداً فيه، لكن لا شك في أنها كانت تفضّل لو كان روتيناً أقل تصلباً. كان ممكناً. أفكر أني كنت أرد على سنوات السجن بأن سجنت نفسي أو أكاد. من باب إنصاف الذات، قد أقول إن سميرة كانت تعرف أني أنفر من الحياة المبددة التي لا يتكرس فيها المرء لمهمة حياة، ولكن لعل ذلك كان ممكناً بصرامة أقل. لقد أردنا نحن الاثنين أن يكون لنا مستقبل، أن لا نكون سابقين، معتقلين سابقين ومناضلين سابقين.
كانت السنوات الخمسة أو الستة السابقة للثورة سنوات مستقرة، عشناها دون مصاعب كبيرة. سمور كانت مستقرة مرتاحة البال في هذه السنوات. لعلها كانت أول سنوات الرضا منذ سجنت قبل ما كان يقترب من عشرين عاماً حينها.
كنا قريبين سياسياً من دوائر «إعلان دمشق»، لكن أقرب إلى محيطها منا إلى مركزها. لم يكن ذلك باختيارنا الحر تماماً، لكننا ارتضيناه بطيب خاطر.
يوم 16 آذار 2011 نزلت سميرة مع ضيفنا بكر صدقي، صديقنا وشريك معظم سنواتي في السجن، للمشاركة في الاعتصام أمام وزارة الداخلية. تهامة معروف، زوجة بكر، كانت وقتها معتقلة، تدفع في حالة سيريالية نادرة بدل اعتقال قديم، وهذا بعد أن صارت أماً لطفلين. التحقتُ بهما متأخراً بعد فض الاعتصام وضرب واعتقال عديدين. وجدت سميرة مع رزان زيتونة في مكان قريب.
خلال العام الأول من عيشي متوارياً في دمشق كانت سميرة تتحرك بحذر بين واحد من ثلاثة مساكن أقمت فيها وبين بيتنا المستأجر في ضاحية قدسيا. أرادت أن تكون شريكة في كل ما يجري، ولم تكن راضية بإلحاحي عليها في أسابيع التواري الأولى للعيش في حمص قريباً من أخواتها وإخوتها، إلى حين تتبدل الحال. ذهبت على مضض وعادت من هناك بعد أيام. لديها بيت، وهي مستعدة لتحمل العواقب، فلماذا تتركه؟ كانت سميرة تريد تثبيت قدميها في اللحظة الراهنة، خلافاً لزوجها الذي يتلهف على التي بعدها.
في العام الثاني من التواري كنا معاً أغلب الوقت، وكان المسكن الرابع يسمح بذلك. لكنه كان عاماً بالغ العنف في عموم البلد، وفي منتصفه أخذت تنتهي «الحرب الأهلية السورية» وينهار الإطار الوطني للصراع بتسارع مع حلول إيران في موقع قيادة الجهد الحربي للنظام. لم تكن الأمور مرئية لنا على هذا النحو في ذلك الوقت، سيلزم عام إضافي قبل أن تأخذ بالاتضاح تدريجياً.
خلال عامين من التواري كانت سميرة ناشطة تشارك في أنشطة ميدانية وتساعد في ما تستطيع، وتدعم زوجها المختفي. لا هي ولا أنا كنا منخرطين في تنظيم سياسي. ولهذا عاقبة لم تكن مرئية لنا وقتها: أياً يكن التنظيم، فإنه يوفر معلومات متنوعة عن الأوضاع العامة تساعد على التوجه، ويشكل إطاراً لتبادل المشورة. لم تكن في حوزتنا من المعلومات غير ما نحصله بجهودنا وبالاعتماد على عدد متناقص من أصدقاء نراهم. عند التفكير في ذلك اليوم، بعد غياب سميرة، يبدو هذا المسلك دونكيشوتياً، وما جرى بعد ذلك عواقب محتملة له.
كان من المصادفات المصيرية أن صارت سميرة مطلوبة للنظام بعد أسبوعين أو ثلاثة من تحولي من دمشق إلى الغوطة الشرقية، فيما كان يفترض وقتها أنه محطة ترانزيت على الطريق إلى الشمال، تنضم سميرة إلي بعد وصولي. بدفع من هذا الطارئ غير المتوقع وبرغبتها في الانضمام إليّ ومشاركة البيئة الجديدة التي لم نكن نعلم كم يطول المقام فيها، جاءت سميرة إلى الغوطة الشرقية بعد شهر ونصف من مقامي فيها.
ما سيظهر لاحقاً أنه غلطة العمر، خروجي من دوما إلى الرقة مساء 10 تموز 2013، لم يبدُ لنا وقتها غير مخاطرة لا بد منها بين مخاطرات سبقت، وقد تعقبها غيرها. كان منها بد. بخاصة أني علمت في اليوم نفسه أن داعش أخذت أخي أحمد مع جميع أعضاء المجلس المحلي في تل أبيض. ربما لو علمت بذلك قبل يومين أو ثلاثة لكان لدينا وقت للتفكير في وجهة أخرى، أو في البقاء إلى حين تتغير الظروف.
لكن سميرة كانت راضية بما تقوم به في دوما. صحيح أن الأولوية كانت لالتئامنا من جديد، وهي استبشرت باستيلاء التشكيلات المقاتلة المعارضة للنظام على العتيبة في أيلول 2013 لأنه يفتح الطريق المقطوع منذ أول ربيع العام نفسه إلى الشمال، إلا أنها لم تشعر بأنها في بيئة غريبة على ما هو واضح في كتابها: يوميات الحصار في دوما 2013.
استطاع النظام إعادة فرض الحصار بسرعة بعد أيام من انتزاع العتيبة من سيطرة قواته، وانقطع الطريق مجدداً. سميرة التي لم تكن قلقة من مقامها في دوما، حتى بعد تقرير أمني دوّنه كاتب طائفي خسيس عنها، كانت في الواقع قلقة من وجودي في الرقة، وأشركت رزان في الضغط علي كي أخرج منها.
وقت خروجي من الرقة إلى تركيا يوم 11 تشرين الثاني 2013 فرض الحصار الكامل على الغوطة الشرقية. قبل ذلك كان حصارا شديداً، لكن يستطيع أناس الوصول إلى أملاكهم أو أعمالهم بين دمشق وبلدات الغوطة، وإن تعرضوا كل يوم للتفتيش والإذلال ومصادرة أي مؤن يحملونها إلى المنطقة المحاصرة. بعد ذلك فرض حصار مطبق كامل. كنا بعد نحو شهر من الصفقة الكيماوية التي أدخلت النظام كلاعب سياسي بعد أن كان الاتجاه حتى المذبحة الكيماوية في آب إلى مقاطعته التامة. كانت المجزرة الكيماوية حملة علاقات عامة بالغة النجاح لصالح النظام.
في الشهرين الفاصلين بين خروجي من الرقة وتغييب سميرة مع رزان ووائل وناظم كانت الأمور تتدهور. حصار محكم من الخارج. ثم حصار من الداخل، تولاه لواء الإسلام الذي كان رفّع نفسه إلى جيش قبل نهاية أيلول 2013، وصار أكثر من ذي قبل سلطة الأمر الواقع في دوما والمنازع الأقوى على السلطة في الغوطة الشرقية. كان من أوائل مظاهر الترفيع الذاتي كتابة تهديد بالموت لرزان من قبل من سنعرف لاحقاً أنه حسين الشاذلي من مخابرات جيش الإسلام. ليس في ما كتبته سميرة على صفحتها على الفيسبوك وقتها، ثم ما جرى نشره في يوميات الحصار، ما يحمل شعوراً بالتهديد الشخصي، لكن شعور الحصار وغياب الأفق كان يشتد. لا سميرة ولا رزان، ولا وائل وناظم اللذان انضما إليهما في أيلول تهريباً من دمشق (قبل الحصار المطبق وتعذر التهريب ذاته، حتى نحو نهاية 2014)، نقلوا إلي، ولعلهم لم ينقلوا إلى غيري، شعوراً بالخطر الداهم. ولم يكن لدى رزان ووائل وناظم خطط للذهاب إلى أي مكان، وإن فكروا في بدائل عن الإقامة في دوما. أما سميرة فلم تكن لديها أي خطط للبقاء، كانت في دوما لاجئة مؤقتة بانتظار فرصة أنسب للانضمام إلى زوجها، في الرقة في البداية، ثم في تركيا. كانت تعلم أني أوشك على الإقامة في بيت مستقل في اسطنبول وقت اختفائها. سكنْتُه بالفعل بعد أربعة أيام من غيابها.
بعض ما عرض أعلاه من معلومات سبق أن جرى عرضه. هنا، في قصة سميرة، لا داعي للعودة إلى القرائن القوية التي تجمعت لدينا ضد جيش الإسلام، وهي قرائن كافية على أن الأمر يتعلق بمافيا دينية، يعمل الدين السلفي كرابط طائفي جامع لأفراد ومجموعات في مشروع لجني المال والسلطة، ولتسهيل ارتكاب الجرائم بأقل مقدار من الوساوس. قد يكون جيش الإسلام أو لا يكون الحلقة الوحيدة في المسلسل الإجرامي المستمر منذ سبع سنوات، منها عامان وثمانية أشهر بعد التهجير من دوما، ثم العمل كقوة مرتزقة للحكومة التركية، لكن ليس هناك أدنى ريب في أنه حلقة في المسلسل الإجرامي الذي لا نجزم بأنه توقف عنده. نعرف بالاسم المتورطين في جريمة الخطف: سمير الكعكة، «الولي الفقيه» للمافيا ومنبع الشر فيه، وحسين الشاذلي الذي ائتمر بأمر الكعكة في كتابة التهديد بالموت لرزان، وأبو عمر الديراني رئيس مخابرات المافيا، وعصام البويضاني رئيس المافيا بعد مقتل رئيسها المؤسس زهران علوش، ويونس النسرين الذي دخل شخصياً على كمبيوتر رزان. لا أسعد بذكر هذه الأسماء الوسخة، لكن لنا معهم سيرة، وهي سيرة لن تنتهي. السر عند هؤلاء المسعورين، وهم السبيل الذي لا بد منه لمعرفة مصير أحبابنا.
سميرة المُغيبة لا تعلم ما جرى في غيابها. هل يمكن امتلاك الشجاعة لرواية ما جرى؟ رحل خلال هذه السنوات السبعة والداها، محمد الخليل وكاملة سليمان، وشقيقتها أمل، وفراس أخي لا يزال غائباً منذ سبع سنوات وخمسة أشهر تقريباً، وتفرق شمل أحبابها في ديار قريبة وبعيدة.
قصة سميرة مستمرة، وهي سياسية من المبتدأ للمنتهى. إنها قصة نضال امرأة شجاعة من أجل الحرية والحب، صراع خاضته في فصلين، فقضت أربعة سنوات سجينة في أولهما، وهي مغيبة منذ سبع سنوات في الفصل الثاني، وعلى يد عدوين مختلفين.
لا يكاد يكون هناك مثيلة لسميرة في سورية كلها من حيث الرمزية. فهي ترمز لاستمرار كفاحنا خلال جيلين، وهي ترمز للصفة العابرة للطوائف لهذا الكفاح، وهي مع رزان رمز لدور النساء الكبير في الصراع السوري، وهي رمز لتعدد جبهات الكفاح السوري وتعدد أعداء التحرر السوري. رغم وحشية النظام وحلفائه، فقد كنا بخير لو كان هو وهم جبهة أعدائنا الوحيدة. الثورة السورية عانت من الإسلامية، العدمية والسياسية والمافيوية، بقدر يصمد للمقارنة مع جبهة الأعداء تلك.
قصة سميرة لا تنتهي بغير حريتها أو معرفة مصيرها، مع شريكتها وشريكيهما، وتحقيق العدالة. ما يقف عائقاً دون ذلك هو ذاته ما وقف عائقاً أمام التحرر السوري: وضع المجرمين أنفسهم بحماية أقوياء يشبهونهم. جيش الإسلام السلفي في ذلك مثل نظام السلالة الأسدية. الجريمة هي الجريمة والصراع هو الصراع.
المصدر: الجمهورية