جسر: رأي:
في ما يبدو استكمالاً لقمة أنقرة التي جمعت ثلاثي أستانة، استخدمت موسكو حق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار أممي يطالب بالهدنة في إدلب، ويطالب بالامتثال للقانون الدولي والإنساني عند اتخاذ تدابير لمكافحة الإرهاب. نص القرار صيغ بطريقة لا تحرم موسكو من مهاجمة الفصائل المسلحة في إدلب، لكنه يلحظ استهداف المدنيين وسياسة الأرض المحروقة التي تعتمدها موسكو. وكان بوتين في قمة أنقرة قد أظهر عزمه على متابعة ما يسميها الحرب على الإرهاب، مع التعهد فقط بتجنب التعرض لنقاط المراقبة التركية المنتشرة هناك، من دون أي التزام يخص ما يقدّر بثلاثة ملايين مدني يقيمون في المنطقة.
كان ينقص أن يستخدم السفير الفرنسي في الأمم المتحدة لغة المقاولات، فيركز في تصريحه إثر الفيتو الروسي على أن من يدمّرون إدلب بالقصف سيتوجب عليهم إعادة إعمارها، وأن بلاده وأوروبا لن تشاركان في إعادة الإعمار، مع إشارة جانبية “لا تخلو من الطرافة” إلى محاسبة المسؤولين عن القصف. فضلاً عن مجانية الإشارة إلى المحاسبة، تشير لغة السفير الفرنسي إلى نوعية المساومات والمقايضات المطروحة، والتي لا تلحظ ولا تكترث بالجانب الإنساني. والحق أنه يتجاهل عمداً الإشارة أيضاً إلى مقايضة مطروحة على هذا الصعيد، أي ما يخص اللاجئين من إدلب في حال اقتحامها، اللاجئين الذين يسعى أردوغان وبوتين إلى توطينهم شرق الفرات.
لتصريح السفير الفرنسي مغزى خاص لأن باريس تقوم بالوساطة بين واشنطن وطهران، ولا يُستبعد أن يكون مطلوباً منها التوسط لدى واشنطن لإقناعها بمشروع المنطقة الآمنة الذي يروّج له أردوغان شرق الفرات. الأخير كان قد قدّم ثمار التين لضيفيه في أنقرة، ونُقل المشهد إعلامياً للدلالة على العلاقة المميزة التي تربطه بهما. والأهم أنه تخلى عن اعتراضه على العضو الأخير فيما يسمى اللجنة الدستورية، على تهافت موضوع اللجنة ومكانة عضو فيها، والاتفاق على اللجنة يعني مضي أطراف أستانة في رؤيتها للحل في سوريا وإحراج الغرب وواشنطن اللذين لا يظهران اهتماماً لا بالمسار العسكري ولا السياسي.
الحل وفق ثلاثي أستانة لن يتقدم طالما بقيت المظلة الأمريكية شرق الفرات، وطالما بقيت واشنطن على موقفها المكتفي بمنطقة نفوذها، من دون تسهيل أو عرقلة للاعبين فيما تبقى من سوريا. لذا من مصلحة الثلاثي قضم مساحة من منطقة النفوذ الأمريكي بذريعة المنطقة الآمنة أو التهديد الكردي، مع إدراك بوتين وروحاني على الأقل أن تلك المنطقة الآمنة ستؤول فيما بعد إلى سيطرتهما سلماً أو حرباً. أردوغان من جهته يريد مكسباً “ولو مرحلياً” يعوض مأزقه في إدلب، فهو يدرك أن الهجوم على إدلب قادم لا محالة، وسيدفع الثمن معنوياً على صعيدين؛ أولاً الانهيار الكلي لسمعته كضامن للمنطقة، وثانياً باضطراره إما لاستقبال العدد الضخم للاجئين أو إغلاق الحدود أمامهم وتركهم لمقتلة كبرى.
الملفت في طرح أردوغان عن المنطقة الآمنة هو الحديث عن إقامة مساكن وبنية تحتية لمليوني لاجئ، هذا التصور يعكس قناعته بعدم وجود حل سياسي في المدى المنظور، وتالياً عدم وحدة الأراضي السورية بخلاف التمسك بها الذي أعلنه الزعماء الثلاثة لقمة التين. وإذا افترضنا تحول طموح أردوغان إلى واقع فالسبيل الوحيد لجعلها منطقة آمنة حقاً هو بقاؤها تحت الحماية الأمريكية، ما يقتضي إعادة تموضع كبرى لسياسات أردوغان الخارجية، وهذا الاحتمال مستبعد لأن واشنطن غير متلهفة لاستعادة الحليف القديم.
من دون أن تحرك ساكناً، تبقى واشنطن هي العقبة أمام الحل الروسي في كامل الأراضي السورية، وهي أقل الأطراف استعجالاً للحل. الوجود الأمريكي متصل بالملف الإيراني أكثر من أي اعتبار آخر، وربما من نتائجه غير المقصودة إحكام الخناق الاقتصادي على الأسد بحكم حاجته إلى النفط والغاز الموجودان تحت المظلة الأمريكية.
موضوعياً، الوجود الأمريكي ورقة القوة الوحيدة التي يمكن الرهان عليها نسبياً لفرملة الحل الروسي-الإيراني، والمفارقة أن الترحيب به محلياً يقتصر على الأكراد الذين لا يحملون عداء لطهران أو موسكو على غرار نظرائهم في المعارضة العربية. بالطبع يعود الترحيب الكردي إلى كون ميليشيات الحماية الكردية هي التي تسيطر على المنطقة وتتحكم بها تحت الإشراف الأمريكي، ويعود موقف المعارضة العربية إلى العداء المستحكم بينها وبين الميليشيات الكردية.
أقل ما يمكن قوله أن أداء الميليشيات الكردية فيه من الحنكة التي يفتقر إليها أداء الجانب العربي، ورغم أن المناخ السائد في هذا الجانب يقرّ بأن الكلمة الفصل هي للقوة الدولية الأعظم إلا أن المعارضة تلتزم بالتوجهات التركية حرفياً. تبرير هذا الاصطفاف من خلال اتهام الأكراد بالنزوع الانفصالي لا يستقيم، لا لنفي هذا النزوع بالمطلق لكن لو شاءت واشنطن الشروع حقاً في إقامة كيان كردي فلن تجد رادعاً لها، ولو كانت محابية للأكراد على نحو خاص لاعترفت بالاستفتاء الذي جرى على انفصال إقليم كردستان العراق حيث الظروف أنضج بما لا يُقاس.
كأن المعارضة السورية تستأنف تقليداً عربياً مفاده القناعة بأن أوراق الحل والربط في واشنطن، وفي المقابل معاداة أمريكا لأنها لا تقدّم الحل الذي نريد، وإذا كانت ظاهرة الحرَد من أمريكا مفهومة على الصعيد الفردي فهي ليست كذلك على صعيد العمل السياسي. صحيح أن واشنطن خذلت الثورة السورية في محطات مهمة، وصحيح أيضاً وافقت ضمنياً على الاحتلالين الإيراني والروسي، إلا أن السياسة التركية منذ انطلاق مسار أستانة لا تمضي سوى إلى تسهيل عمل الإيراني والروسي، وهي خدمت وتخدم سلطة بشار بالتعاون المباشر مع حلفائه. وللحق أثبتت السياسة التركية علوها على نظيرتها الأمريكية، فيوماً ما لم تستطع واشنطن إقناع المعارضة بالعمل كمرتزقة لديها لقتال داعش حصراً، بينما استطاع أردوغان بجدارة تجنيدها لخدمته.
المدن 21 أيلول/سبتمبر 2019