جسر: مقالات:
في 22 حزيران (يونيو) 2019 صادق المجلس العام في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا على قانون الدفاع الذاتي “الخدمة الإلزاميّة العسكريّة” في مناطق الإدارة الذاتية التي تشمل مساحات واسعة من محافظات الحسكة والرقة وديرالزور وحلب. يُسمى هذا القانون محليّاً “التجنيد الإجباري” ويتم تنفيذه من خلال لجان الدفاع الفرعيّة في الإدارات المدنيّة “المجالس” التابعة للجان الدفاع الإقليمية، والتي تتبع بدورها لمكتب الدفاع في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
وقبل ذلك التاريخ، كان هذا القانون ساري المفعول في العديد من مناطق الإدارة الذاتيّة مثل: عين العرب (كوباني) وتل أبيض، القامشلي، منبج، عفرين، كما كانت العديد من المناطق كالرقة والطبقة وديرالزور معفاة من هذا القانون، الذي دخل حيز التنفيذ فيها بداية شهر تموز (يوليو) 2019 ليبدأ بذلك كابوس جديد يهدد حياة الشبان في هذه المناطق، جاعلاً إياهم وقوداً للقوى المتصارعة في الساحة السورية.
في الخامس من نيسان (أبريل) 2020 ومع بداية تفشي وباء كورونا، تم إيقاف العمل بقانون الدفاع الذاتيّ لمدة ثلاثة أشهر، ليتم استئناف العمل به في الخامس من تموز (يوليو) الماضي. لاقى هذا القرار استياء شريحة واسعة من الأهالي لما يسببه من نتائج سلبية على حياتهم اليومية، إذ بات خروج الشباب وتجولهم في المدن أمراً بالغ الصعوبة، كما أن هذا القرار أضعف حركة التنقل بين الريف والمدينة مما عاد بالضرر على العديد من الأيدي العاملة. ولاحتواء أي غضب شعبي قد يحصل مستقبلاً كرد فعل على هذا القانون، حشدت الإدارة الذاتية اجتماعياً لهذا القانون، وروجته من خلال بث لقاءات مع بعض وجهاء العشائر يتم فيها حثّ الشُبان على الالتحاق بواجب الدفاع الذاتيّ.
ولمعرفة تفاصيل أكثر عن هذا القانون وانعكاساته على حياة الأهالي، تم التواصل مع العديد من الشبان ممن وقعوا ضحية لهذا القرار، وآخرين موظفين في لجان الدفاع، بالإضافة لناشطين حقوقيين، وأُخِذت شهادتهم الشخصية بهدف تقديم إحاطة كاملة عن هذا القانون.
عمليات التعبئة
يشمل قانون الدفاع الذاتي الذكور ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين، أي المواليد بين عامي (1990 -2001) كما يحق للإناث أن يلتحقنَّ طوعاً. وينصَّ القانون على أن تكون مدة الخدمة العسكرية سنة ميلادية كاملة (اثنا عشر شهراً) يُضاف لها شهر احتياط، وفق ما أفاد به أحد الشُبان ممن أدوا واجب الدفاع الذاتي، كما لا يُستَثنى من هذا القرار موظفو الإدارات والمجالس وغيرهم من العاملين في المنظمات الإنسانية غير الحكومية.
وفق إفادات العديد من المصادر العسكرية، يتم تحديد الحاجة من القوات عن طريق مكاتب الدفاع في الإدارات المدنية، وعليه يتم وضع رقم معين تجري وفقه عمليات التعبئة، وفي حال عدم الوصول للرقم المطلوب لعدة أسباب أهمها عدم التجاوب الشعبي، يتم إنهاء الحملة، وبدؤها في وقت لاحق، مع العلم أن هذه الأرقام لا يُعلن عنها بشكل رسمي لأسباب أمنية على حد قول هذه المصادر.
تتم التعبئة العسكرية تقريباً كل ثلاثة أشهر، بواسطة جهاز الشرطة العسكرية، ويتم خلالها نصب العديد من الحواجز على المداخل الرئيسية للمدن والبلدات بالإضافة لمداهمات تطال البيوت وأماكن العمل كالمتاجر، ثم يُساق الشُبان من مقرات الشرطة العسكرية لأكاديميات الدفاع الذاتي، والتي يخضع فيها المجندون لدورة تأهيل عسكري وفكري مدتها 45 يوماً، ليتم بعد ذلك فرز المُجندين على ألوية ونقاط خاصة بقوات الدفاع الذاتي أشهرها خطوط التماس مع قوات النظام السوري في ريفي الرقة الغربي والشرقي (الشاميّة) وهنا يجب التنويه أن مجندي الدفاع الذاتي لا يتم فرزهم على الفروع الأمنية وقوى الأمن الداخلي “الأسايش” إطلاقاً.
تُعتبر قوات الدفاع الذاتي “قوات الحماية الذاتيّة” جناحاً عسكرياً مستقلاً يتبع هيكلياً لقوات سوريا الديمقراطية، ويتولى سيناميد ولات، منصب القائد العام لقوات الحماية الذاتيّة، كما تُدار الأكاديميات بواسطة قادة متطوعين يسمون محليّاً “قومتان” ويخضع المجندون في الأكاديميات لنوعين من التدريبات: فكريّة سياسيّة تشمل أفكارا عقائدية لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD يلقيها شخص يُسمى “قمسيون” وتدريبات عسكرية على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة تتم بإشراف “طابور قومتان” ويصدر عن مكتب الدفاع في شمال وشرق سوريا مجلة شهرية تسمى “مجلة الحماية” يُنشَر فيها الأخبار المتعلقة بقوات الدفاع الذاتي.
تضم مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة سبع أكاديميات خاصة بالدفاع الذاتيّ موزعة كما يليّ: أكاديمية كندال في جبل قره بركل جنوبي عين العرب (كوباني) وأكاديمية عمر نبّو في منبج، أكاديمية مجد عثمان في تل كوجر في الحسكة، أكاديمية نضال يوسف في كبكا، أكاديمية أحمد العلي في الرقة، أكاديمية بشار جريبة في الرقة، أكاديمية مشعل الإدريس في دير الزور.
بداية شهر آب (أغسطس) الحالي بدأت الإدارة الذاتيّة حملة تجنيد جديدة، ووفقاً لعديد من المصادر فإن العدد المطلوب سَوقه لواجب الدفاع الذاتيّ في إقليم الفرات الذي يشمل الرقة والطبقة ودير الزور وعين العرب (كوباني) يبلغ 1500 شخص، وحتى الآن تم تجنيد ما يقارب 800 شخص، ولا تزال الحملة مستمرة حتى تاريخ كتابة هذا التحقيق.
“منذ قرابة الأسبوعين وأنا متوقف عن العمل، ولا مصدر رزق لي سوى هذه السيارة، كما أني لا أعرف إلى متى سيطول هذا الحال” هذا ما أبلغنا إيّاه أحد سائقي الميكروباصات في ريف الرقة الغربي، إذ يشكو هذا السائق خوفه من التجنيد، بعد اعتقال العديد من الشبان على حاجز الفُروسيّة مدخل الرقة الغربي، واقتيادهم إلى الخدمة الإلزامية. ويُرجع هذا السائق سبب عدم التحاقه كونه معيل لأسرته ما يعني أنهم لن يتمكنوا من تدبير أمور المعيشة في حال غيابه، كما أنه يخشى أن يقع ضحية لاشتباكات عسكرية أو أن يلقى حتفه بلغم أرضي أو ما شابه من المخلفات العسكرية.
وفي سياقٍ متصل أجرى كاتب التحقيق اتصالا هاتفيا مع أحد أبناء مدينة ديريك “المالكيّة” في ريف الحسكة، ممن يدرسون في الجامعات الواقعة في مناطق سيطرة النظام السوري، وأخذ رأيه في هذا القانون، فأجاب: “يتوجب علينا الحصول على دفتري خدمة إلزاميّة أحدهما من النظام السوري، والآخر من الإدارة الذاتية، ويتوجب علينا تقديم التأجيلات الدراسيّة لكلا الجهتين سنوياً” كما تحدث هذا الشخص عن مخاوفه من العودة إلى قريته والاستقرار فيها بعد انتهاء دراسته، فتأمين سبب مقنع للتأجيل أمر بالغ الصعوبة في مناطق الإدارة الذاتية، كما أشار هذا الشخص لهجرة العديد من شبان قريته إلى العراق أو تركيا كي لا يلتحقوا بقوات الدفاع الذاتيّ
وعن إمكانية الحصول على تأجيل من واجب الدفاع الذاتي، يحدثنا أحد المصادر المُطَلِعة عن الحالات التي يتم منحها تأجيلاً، وهي: من لديه أخ مُقاتل “شريطة أن يكون من نفس الأم” والوحيد المؤقت، الطلاب شريطة توفر مصدقة دراسية، المغتربون من حملة الإقامات شريطة دفعهم مبلغ أربعة مئة دولار أمريكي سنوياً ويستثنى من هذا الرسم المقيمين في تركيا والعراق، أما التأجيل بحكم المُعيل فمصيره الرفض في معظم الحالات، إلا في حال وجود محسوبيات أو رشاوي.
ويُعفى كل من الوحيد الدائم، وذوي الاحتياجات الخاصة، وأبناء وأخوة المقاتلين ممن تُوفوا ضمن صفوف أي قوات تتبع للإدارة الذاتيّة، واللقطاء، كما يُعتبر من لديه أخوة من ذوي الاحتياجات الخاصة بحكم المُعفى. مع العلم أن أداء خدمة العلم لدى قوات النظام السوري لا تلغي وجوب الالتحاق بواجب الدفاع الذاتي.
نواة دولة
في مدن وبلدات ريف دير الزور الواقعة تحت سلطة الإدارة الذاتية، والتي تعيش حاليّاً حالة توتر أمني كبير على خلفية مقتل الشيخ مطشَر الهفل، تنهج الإدارة أسلوباً آخر، فلا وجود لمُداهمات أو حواجز شرطة عسكرية داخل هذه المناطق، بل يتم اقتياد شُبانها للتجنيد أثناء سفرهم باتجاه المحافظات الأخرى كالرقة والحسكة، وبحسب أحد ناشطيّ دير الزور فإنَّ العديد من الشُبان تم سوقهم للدفاع الذاتيّ بعد اعتقالهم بواسطة الشرطة العسكرية على حاجز المشلب في الرقة، وحاجز قانا في الحسكة.
أما عن النازحين من أبناء مناطق عفرين، تل أبيض، ورأس العين الواقعة تحت سيطرة الفصائل المدعومة تركياً، فقد أصدر مكتب الدفاع في شمال وشرق سوريا قراراً ينصّ على منح كل المُكلفين منهم تأجيلاً لمدة عام كامل من تاريخ 01/01/2020 حتى 01/01/2021.
وفي البحث عن الأسباب وراء فرض الإدارة الذاتية لقانون الدفاع الذاتيّ يجيبنا أحد المصادر العسكرية، والذي رفض الإفصاح عن هويته لأسباب أمنية، فيقول: “إنَّ حاجة الإدارة الذاتيّة لفرض هذا القانون تنبع من رغبتها السياديّة، ومحاولتها إيصال فكرة أنَّ الإدارة هي جسم ذو رؤية متكاملة يحمل نواة دولة، مما يتيح لها البروز كبديل شرعي عن النظام السوري في مناطق سيطرتها، كما أن فرض هكذا قوانين يساعد في تخفيف النفقات المالية على الإدارة، إذ تَعمد الإدارة إلى سد النقص الحاصل في الجبهات العسكرية من خلال قوات الدفاع الذاتي بدلاً من تعزيزه من المتطوعين، فراتب المُجند في صفوف الدفاع الذاتيّ يبلغ 50 ألف ليرة سورية، بينما لا يقل راتب المتطوع في باقي الأجهزة عن 200 ألف ليرة سورية، فضلاً عن لزوم الطبابة وغيره من النفقات التي تقع على عاتق الإدارة تجاه كل متطوع مما يجعل اعتمادها على الدفاع الذاتي أقل كلفة مالياً”. كما أن سجلات العديد من الأجهزة العسكرية مليئة بطلبات الانتساب منذ عدة شهور دون أن يتم الموافقة عليها وفق ما أكد هذا المصدر.
حروب وصراعات داخليّة
يرى العديد من المهتمين بالشأن العام أنَّ هذه القرارات تُقَوض مساعي دعم الاستقرار في المنطقة، وتُوسِع الفجوة بين السلطة والشعب، مما قد يفتح المجال على حروب وصراعات داخليّة تُثقل كاهل هذه المناطق، التي تضررت بنيتها الاجتماعية بفعل الحروب الأخيرة، وتعاقب السلطات على مدار السنوات السابقة، مع العلم أن مطالبات عديدة قُدِمت من الأهالي لوقف العمل بهذا القانون إلا أنها لم تلقَ أذاناً صاغية لدى الإدارة الذاتيّة.
“تُعتبر الإدارة الذاتيّة سلطة أمر واقع فاقدة لأي شرعيّة محليّة أو دوليّة، وبالتالي فإنَّ ما يصدر عنها تحت عنوان قانون لا يتصف بالمشروعية، فهي مجرد أوامر مستمدة من أفكار القوى التي أنتجتها، ولا تعبر عن منطق دولة” هذا ما أفادنا به القاضي عبد الرزاق الحسين أحد الناشطيّن في مجال حقوق الإنسان، إذ يؤكد القاضي عدم شرعيّة أي قرار يصدر عن سلطة الإدارة الذاتية، بحكم أنها لم تنشأ من رغبات الشعوب بل جاءت كنتيجة لتوافقات دولية في المنطقة.
تُشير التحليلات وإفادات الشهود المُدَونة أعلاه إلى الخطر الكبير الذي يحدق بالمنطقة وقاطنيها من كافة المكونات جراء هذا القانون، كما يَتبين مُضي الإدارة الذاتية قُدماً في تنفيذه، وعدم اكتراثها لما من الممكن أن يلحق بالمنطقة من خراب رغم كل المناشدات من أطراف محليّة ودوليّة عدة لوقف العمل به، وأمام كل هذا يبقى الشعب هو الحلقة الأضعف ضمن هذه السلسلة التي تزداد بؤساً مع مرور الزمن في ظل غياب أي مساع حقيقية للارتقاء بواقعه وإنهاء مأساته.
الإدارة الذاتية
برز مصطلح الإدارة الذاتيّة لأول مرة في سوريا في 21 كانون الثاني (يناير) 2014 وقد جاء ذلك بعد قرابة العام والنصف من سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطيPYD على مناطق واسعة من محافظة الحسكة عقب انسحاب قوات النظام السوري منها، واقتصار وجوده على مربعات أمنيّة ضمن مدينتي الحسكة والقامشلي، وقد ضمّت الإدارة الذاتيّة آنذاك ثلاث مقاطعات هي: الجزيرة، كوباني، عفرين.
وفي تشرين الثاني (أكتوبر) 2015 وبعد سيطرة غرفة عمليات بركان الفرات على مساحات واسعة من محافظتي الرقة والحسكة، تم الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، وهي تحالف عسكري متعدد الأعراق والأديان مدعوم أمريكياً، تشكل عموده الفقري وحدات حماية الشعبYPG ووحدات حماية المرأةYPJ.
شهدت المنطقة بعد ذلك إعلان فيدرالية شمال شرق سوريا باسم “روج آفا” في 17 آذار(مارس) 2016 بعد اجتماع في مدينة رميلان شمال الحسكة ضم العديد من الأحزاب الكردية، وممثلين من العرب والآشوريين والتركمان والأرمن.
ومع تزايد وتيرة الانتصارات لقوات سوريا الديمقراطية، وبسط سيطرتها على مناطق واسعة من محافظتي الرقة ودير الزور، أعلن مجلس سوريا الديمقراطية في السادس من أيلول (سبتمبر) 2018 تشكيل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بعد اجتماع في بلدة عين عيسى شمال الرقة، لتشمل بذلك الإدارة الذاتيّة سبع مناطق هي: الرقة، الطبقة، منبج، دير الزور، الجزيرة، الفرات (كوباني) وعفرين.
القدس العربي ٢٩ آب،اغسطس ٢٠٢٠