عبد الناصر العايد
تتزايد الإعلانات عن تحول فصائل عسكرية في الشمال السوري إلى كيانات ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، مثل حركة ثائرون، وعزم، والجبهة السورية للتحرير التي تأسست العام الماضي. ويأتي ذلك على خلفية جمود الجبهات، واستقرار تلك الفصائل في مناطق سيطرتها كسلطة أمر واقع، وسعيها لمنح نفسها شرعية فوق شرعية السلاح، وتجهيز أدوات سياسية استعداداً لمرحلة تسوية محتملة.
آخر تلك الكيانات، “حركة التحرير والبناء” التي أعلن عن تأسيسها في ريف الرقة الشمالي، منتصف شباط الجاري. وهي، مثل سابقاتها، مكونة من فصائل في الجيش الوطني السوري، المدعوم من تركيا، ولا تتضمن طروحاتها المعلنة أي جديد في الشكل أو المضمون عن التشكيلات الأخرى، التي لا تختلف عن بعضها البعض سوى بأعضائها وقادتها وظروف ودوافع توحدهم.
تضم الحركة الجديدة نحو سبعة آلاف مقاتل، هم عناصر فصائل أحرار الشرقية وجيش الشرقية والفرقة عشرون وصقور الشام في المنطقة الشرقية، وتعمل جميعها اليوم في منطقة نبع السلام الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، وتحصل على تمويل ثابت من الرواتب والعتاد التشغيلي من الطرف التركي. لكن مواردها الأهم هي التي تنتزعها جراء سيطرتها على قطاعات من المنطقة تتضمن أراضي زراعية وعقارات يجري استثمارها بعد هروب مالكيها، كما من عمليات تهريب البشر والنفط وأعمال تجارية تبادلية واسعة النطاق من خلال المعابر مع تركيا أو مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية.
وقد وضعت واشنطن فصيل أحرار الشرقية وقيادته في لوائح عقوباتها، فيما تُتهم الفرقة عشرين بإيواء عناصر من تنظيم داعش في صفوفها، والذين قتل عدد منهم في غارة للتحالف الدولي على مقر لها بريف رأس العين السورية أواخر العام الماضي.
ويبدو أن المرجعية الاجتماعية للحركة الوليدة، ترتكز على مهجري محافظة دير الزور في شمال سوريا، إذ يتحدر منها قائد الحركة الرائد حسين العلي، وهو ضابط أمن منشق، ونائبه أبو حاتم شقرا، وكذلك الشخصية الثالثة في الكيان أبو برزان، وثلاثتهم أيضاً ينتمون إلى قبيلة واحدة هي البكارة. ومن الواضح أيضاً أن المرجعية الأيديولوجية للحركة إسلامية صرفة، فوفق المعلومات المنشورة، يعتقد أن مؤسس الحركة الفعلي هو أحمد طعمة، ذو الخلفية الإسلامية البارزة، بينما كان الرائد حسن العلي وشقرا قياديَين في حركة أحرار الشام الإسلامية، ويعتقد أن أبا برزان، قائد الفرقة عشرين، كان عضواً في جبهة النصرة، بينما يعتبر فصيل صقور الشام في الشرقية أيضاً تنظيماً إسلامياً سلفياً وفق توجهات مؤسسه أبو عيسى الشيخ.
وكما هو معروف، فإن السياق السوري منذ نحو عشر سنوات، عرف تخمة من هذه “الحركات” العسكرية ذات الطابع الديني، بدرجات متفاوتة من التشدد، وغالباً ما يرأسها رجال دين، أو متبحرون في العلوم الدينية، ولم تعدم غالبيتها مجلس شورى إسلامياً، وتفتقد جميعها إلى الديموقراطية أو مظاهرها، سواء داخلياً أو في ممارساتها الخارجية، حيث يتم تعيين قادتها بطرق غامضة في معظم الأحيان، ولا يتم الكشف إطلاقاً عن أعضائها أو أنشطتها أو مصادر تمويلها. ويمكننا أن نعدد أكثر من دزينة من هذه الحركات العسكرية الدينية في سوريا، مع تلوينات مذهبية مختلفة، مثل جبهة النصرة، وحركة أحرار الشام وصقور الشام وجيش الإسلام، وحركة رجال الكرامة في السويداء ولواء الباقر في حلب وغيرها.
لقد شهد المشرق العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ازدهاراً كبيراً لنزعة تكوين كيانات سياسية على أساسي العمل العسكري والإيديولوجية الدينية، على خلفية اندحار التصورات القومية واليسارية بالتزامن مع ترنح وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأبرز تمثيلاته في لبنان والعراق. لكن واقع الحالة السورية يبدو أكثر التصاقاً بالحالة العراقية المتحكَّم بها من طرف طهران، فهو في غالبه نشأ على خلفية مناوئة نظام الحكم، وعلى أساس طائفي، ومدعوم ومتحكَّم فيه من دولة جارة قوية هي تركيا، التي يحكمها حزب إسلامي في النهاية، مع فارق في درجة التشدد ونوعية الأدوات مع الطبقة الدينية التي تحكم ايران. ويحتمل أن يكون مسار تطور هذه التشكيلات السياسية العسكرية المستقبلي في سوريا، مطابقاً لذلك العراقي من حيث تمثيلها للمصالح الاستراتيجية للدولة الداعمة، باعتبارها الآمر الناهي فيها، وذات رداء أيديولوجي ديني فضفاض، يمكنه أن يواري افتقار هذه الكيانات لبرنامج أو اجندة وطنية، ويبرر صلاتها وروابطها العابرة للحدود ويغطيها.
إن مسار التحول من العمل العسكري إلى السياسي مسار عالمي للجماعات المقاتلة فقد أشارت دراسة حديثة شملت 133 جماعة مسلّحة حاربت ضد أنظمة مختلفة في 50 دولة في العالم، في الفترة 1990-2009، إلى أن 54.8 في المئة منها تحولت إلى أحزاب سياسية.
ويعدّ هذا التحول من العمل المسلح إلى السياسي ايجابياً في العموم، إذ يعتبر نوعاً من الميل إلى العمل السلمي، وإلى تنظيم دور البندقية، وإيلاء شطر من اهتمام قوى الأمر الواقع المسلحة لمسائل التنظيم وإدارة المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها. لكن، في السياق السوري المنظور هنا، يمكن أن يجلب هذا المسار نتائج كارثية في ما يخص الطموحات الاجتماعية والسياسية السورية العامة. فمن ناحية تلغي أي فرصة للديموقراطية، بل تلغي الحريات وحقوق الإنسان على نحو راديكالي وجذري بالاعتماد على الايديولوجيا الدينية مهما انخفضت شدة تطرفها، خصوصاً حقوق المرأة، التي لا تظهر في المشهد اطلاقاً، على نحو ما كان عليه الأمر إبان العمليات العسكرية.
كما تزيد الارتباطات الخارجية من استلاب القرار الوطني، وترهن استقلاليته، وتؤدي في النهاية إلى تجذير صورة سوريا لا كوطن لهذه الحركات ومنتسبيها، بل كأرض يتصارعون عليها مع وكلاء محليين آخرين لقوى ودول مهيمنة، لتحقيق المصالح الاستراتيجية لتلك القوى والدول. فيما ينال الوكلاء فتات السلطة ومظاهرها البائسة، التي ستتمسك بها حتى آخر رمق، حتى لو كان ثمن ذلك تدمير كل أركان البيت الوطني. فقادة تلك الكيانات لن يأبهوا لذلك كله، ما داموا يتمتعون بجنسية البلد الداعم، ويكدسون فيه ثرواتهم ومنهوباتهم من البلد الأم.
المصدر: المدن