ويضيف عويّد، أن أعداداً كبيرة من السكان الأصليين طُردوا من مساكنهم إلى الخيام، ليحتلها عناصر التنظيم وعائلاتهم النازحة إلى البلدة، بأعداد غفيرة، بعد تقهقر “داعش” تدريجياً.
أهالي البلدة لجأوا إلى ما يمكن أن تقدمه الطبيعة، خصوصاً الرمان. فالمنطقة معروفة تاريخياً بزراعته، ويثمر فيها على نحو استثنائي. وتعتبر السوسة المجاورة للباغوز المورد الرئيسي للرمان في سوريا.
أما المساعدات التي كانت تقدمها “قسد” بين الفينة والأخرى، فيقول عنها عويّد: “كانت تدخل البلدة بين الفينة والأخرى شاحنة أو شاحنتين من المواد الغذائية، لكننا لا نستطيع الاقتراب منها، فهي موجهة لعناصر التنظيم وعائلاتهم”. والتنظيم كان يحتكر توزيعها على عائلاته.
أم رامي: مساكب الخضار!
أم رامي، معيلة أسرتها من السوسة، وقعت في الحصار أيضاً. ومع ذلك، فقد كانت لديها خطتها الخاصة للتأقلم مع هذا الظرف الاستثنائي، إذا أنشأت مزرعة صغيرة خاصة بها أمام منزلها، تزرعها بخضروات الموسم من البقدونس والبصل والجرجير، تقتات على بعضها، وتبيع جزءاً من منتجاتها لعائلات التنظيم، ثم تشتري ما يمكن شراؤه بتلك العائدات من بعض التجار الذين تتوافر ليهم بعض المواد الغذائية الأخرى، ومن الأهالي كانت تشتري القمح المُخزّن.
وتشرح أم رامي مشروعها ضاحكة: “كنت أبيع مثلاً مسكباً صغيراً بطول مترين وعرض متر واحد، مزروع بالبقدونس، بمبلغ 175 دولار، ثم اسقيه من جديد، لأعاود بيعه”. وهو مبلغ خيالي بالنسبة لأسعار المنتجات في تلك المنطقة، ففي الأحوال العادية لا يمكن لهذا المسكب أن يدر أكثر من ربع دولار في أفضل الأحوال.
أم رامي تشتري بهذا المبلغ قمحاً وتخزنه في بيتها، ولاحقاً، مع نفاذ القمح، بدأت بشراء الشعير. والشعير لا يستخدم في هذه المنطقة، المشهورة أيضا بإنتاج القمح، إلا كعلف للحيوانات. تقول إنها كانت: “تطحن الشعير على الرحى التقليدية، المصنوعة من حجر الصوان، ثم تخبزه على صاج، وتخبزه على تنور تقليدي، وتبيع الرغيف الواحد بـ8 آلاف ليرة سورية”. من هذه الأرباح الصغيرة والمتواضعة، لكن المستمرة، استطاعت أم رامي أن تؤمن قوت أولادها الصغار، واستمرت في عمليات البيع والشراء والمقايضة على احتياجاتها، تحت دوي القذائف وصفير القنابل والصواريخ، غير مكترثة سوى بتأمين القوت اليومي لـ”عيالها” كما تسميهم، فيما كان المتحاربون يسعون إلى أهداف أخرى.
الحاج محسن: مات ولدي
ونجا أيضاً من محنة الباغوز، الحاج محسن، وهو أيضاً أحد سكانها الأصليين، لكن ابنه حسين فقد حياته. إذ اضطروا للعيش في خيمة من القماش الرقيق، بعد طرد التنظيم لهم من منزلهم، فمرض الطفل مرضاً شديداً بسبب البرد القارس لشتاء تلك المنطقة. يقول الحاج محسن: “أصيب ولدي بحمى شديدة، ولانعدام الدواء كنت أعالجه بالكمادات الباردة وحسب. سهرت طوال الليلة أبدلها له، لكنه لم يتحسن. وازداد الوضع سوءاً عندما ضربتنا عاصفة مطرية شديدة، فحملت ولدي وتوجهت إلى ما يدعى بالنقطة الطبية لتنظيم داعش، حيث تتوافر الأدوية والعلاجات، رغم تحذيرهم المسبق لنا كمدنيين من مراجعتها، لكنه ولدي، وكان يموت بين ذراعيّ”.
الحاج محسن، غادر الباغوز لاحقاً مع موجات المدنيين الذين سمح لهم بالمغادرة، وهو ينتظر السماح له بالدخول إلى بلدته مجدداً ليواري طفله في قبر مناسب، بدلاً من تلك الحفرة الصغيرة التي دفنه فيها ووضع عليها علامة مميزة يستطيع الوصول إليها مهما حدث من قصف ودمار.
أما عن الطريقة التي كان يوفر بها قوته ومستلزماته اليومية، فيقول الحاج محسن إن الرمان كان هبة الأرض التي ساعدته وعائلته على البقاء. فأسعار المواد التي تستورد من خارج المنطقة، صارت خيالية إذا ما توافرت. وعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو السكر نحو مئة دولار، وهو ثمن 3 كيلوغرامات من لحم الدجاج، الذي كان يتوافر القليل منه في البلدة الزراعية بطبيعة الحال، لكن أعداده تناقصت بشكل سريع بعد استهلاكه من قبل الأسر أو اضرارهم لبيعه لعناصر التنظيم أو مقايضته على مواد أرخص مثل الخبز، او حتى للحصول على بعض الادوية.
لماذا ظلوا في الباغوز؟
عند سؤالنا لعويّد عن سبب بقائه في الباغوز، رغم حصارها ورحى الحرب التي كانت تدور هناك، استغرب سؤالنا ذاك، وسأل بدوره: “وكيف اغادرها؟ أنا عندي أرض ورثتها من أجدادي، وبيت عمّرته بنفسي، ولدي جرّار زراعي اعمل عليه.. كيف اغادرها؟”. رغم الحرب؟، يقول: “إنها غمامة سوداء وستعبر، لكن ارضنا باقية، وقد أنقذت حياتي.. وسأعود إليها ما أن ينتهي تمشيطها من قبل القوى العسكرية، لأستأنف حياتي”.