قال الداعشي، وهو يتفحص بطاقة خالد الشخصية: “نشتبه بسيارة مسروقة كالتي تستقلها”. يتابع خالد: “أجابه أخي محمد: لا يا شيخ فأنا اشتريتها من حر مالي وهذه أوراقها”، تحقق الداعشي من صحة الاوراق، وسمح لهم بالمرور، “مرّت تلك اللحظات وكأنها أعوام”، يقول خالد.
هكذا يسرد خالد حكاية شقيقه محمد، الذي فُقِدَ منذ الثلث الأول من العام 2017، إذ اعتقله “داعش” بعد أربع عمليات تهريب لفتيات إيزيديات، وما زال مصيره مجهولاً حتى الآن.
“قلت لمحمد هذه آخر مرة أخوض فيها هذه المغامرة” وذلك بعدما دخلوا منطقة يسيطر عليها الجيش الحر، يتابع خالد: “أتريدون ماء بارداً؟، جاءنا الصوت من رجل أشعث الشعر على دراجة نارية، فأجبناه: بالتأكيد”. وكانت تلك كلمة السر المتفق عليها، عندما وصلوا للمُهرّب الذي سيتسلم الطفلة الأيزيدية التي كانت برفقتهم. طفلة لم تبلغ الـ13 من عمرها، لكنها تهرب من “زوجها” الداعشي.
يتابع خالد: “دخلنا خيمة مقسومة إلى محرم خاص بالنساء ومعزب للرجال، الأطفال كانوا يلهون مع الأغنام والماعز. وقال المُهرّب: يمكنكم الذهاب الآن فقد انتهت مهمتكم”، تنفسوا الصعداء، “فلقد أنجزنا واحدة من أخطر الأعمال في ذلك الزمن”.
تداعب والدة خالد ومحمد، شعر حفيدتها الصغيرة غروب، ابنة محمد، التي تتابع القصة التي يرويها عمها عن والدها الذي لا تعرفه. يتابع خالد: “لم يكن ذنب محمد سوى إحساسه بالإنسانية تجاه ما رآه”. ففي صبيحة أحد أيام الجمعة، “جاءني محمد ليقول لي: رأيتها وهي تتجمد من البرد منذ يومين في فناء منزل بجوار بيتي، ووعدتها بتهريبها خارج البلاد”، فقال خالد له: “يا رجل أتدرك عقابيل ما تريد فعله؟ فردّ علي: سأكون بلا ناموس إن تركت هذه الطفلة في براثن هذا السفاح الداعشي.. سأهرّبها إلى تركيا”. خالد حذّر أخيه محمد من خطورة ما سيقدم عليه، لكن دون جدوى، “فقد سبق السيف العذل”.
ومحمد شاب من الرقة، ترك دراسته لإعالة الأسرة، بسبب مرض والده، واحترف مع أخيه خالد مهنة تصويج السيارات. لم ينخرطا في الثورة، إذ كان جلّ همهم تأمين لقمة العيش للعائلة.
يقول خالد: “صباح أحد أيام كانون الثاني 2017 جاءني أخي محمد مضطرباً يطلب مني سيارة كي يرافق جماعة إلى بلدة مسكنة، مشترطاً عليّ قيادتها، ولم يمهلني حتى لأداء الصلاة”. يتابع خالد: “ملأ محمد خزان السيارة بالوقود، وعاد ودعاني إلى قيادتها، فتفاجأت بوجود امرأة في المقعد الخلفي، سألته بقلق: من الأخت؟، فأجاب: سنتكلم أثناء السفر”. محمد احضر هوية زوجة أخيه واعطاها للمرأة المنقبة. أوقف خالد محرك السيارة، وقال: “لن نتحرك قبل أن أعرف ما الذي يحدث”، فأجاب محمد: “إنها الطفلة الايزيدية التي حدثتك عنها”. يتابع: “صرخت به غاضباً: أنت تغامر بحياتنا وحياتها.. ما هذا الجنون؟”، لكن محمد “كان قد اتخذ قراره ولم يعد بالإمكان تغيير رأيه إلا بشجار قد يفضح أمرنا، ولم أستطع ان اتركه ليذهب في هذه المهمة القاتلة لوحده”.
كتم خالد غضبه، وانطلق بالسيارة، وفي الطريق بدأ استجواب الطفلة، ليكتشف أنها كانت تبكي من الخوف. روت الطفلة “فظائع لم أكن اتخيل أن بشراً يستطيع اقترافها، لقد قتلوا عائلتها أمام عينيها، وابقوا عليها لأنها طفلة يمكنهم أن يجعلوها سبية تباع وتشترى، لا لشيء آخر”.
نجح خالد ومحمد في تهريب أربع نساء، من دون مقابل لقاء تلك المجازفات الخطرة. يقول خالد: “لم يكن لدينا هدف مادي. هناك أساليب متعددة لجمع المال، لكن للإنسانية طريق واحد والجميع يعرفه”.
في آذار/مارس 2017، كانت مكبرات الصوت تصدح في شوارع وأحياء الرقة، محذرة من انهيار وشيك لسد الفرات في الطبقة، عندما استهدفته “قوات سوريا الديموقراطية” بالصواريخ.
“أنقذوا أنفسكم من الغرق يا أهالي الرقة” صدحت المكبرات، فعاد خالد إلى منزله ليخبر أسرته بضرورة المغادرة، لكن محمد آثر البقاء ليحمي المنزل من السرقة. “كانت تلك آخر مرة اشاهده فيها”، ويضيف خالد: “أوصاني بأهلي وعائلته، وأوصيته بنفسه”.
وصلت العائلة إلى قرية الجرنية شمال غربي الرقة حيث تسيطر “قسد”، وبات التواصل مع محمد محصوراً ببرامج المحادثة التي تمارس عليها “داعش” رقابة شديدة. لذا، لم يعد خالد يعرف اخبار شقيقه بالتفصيل، لكنه علم أن امرأة ساعدته في تهريب احدى اليزيديات، ثم وشت به لدى التنظيم، فألقي القبض على محمد في 24 نيسان 2017 لتنقطع أخباره.
يتأمل خالد أن يكون شقيقه على قيد الحياة. تناديه ابنة أخيه: “بابا أريد ماءاً”، فهي لم تعرف أباها. تغرورق عينا الجدة بالدموع، ويغوص خالد في تفكير حزين عميق.