جسر: متابعات:
فاجأتني ابنتي، وأنا أخبرها عن وفاة عبد الحليم خدّام، بأنها لا تعرفه، ولا يعني اسمُه لها شيئا. وقد لا تكون ابنتي (في العشرين من عمرها) وحيدة في ذلك، كثرة من جيل الألفية لا يعرفون الرجل. وحين انتفض السوريون ضدّ نظام بشار الأسد في سورية سنة 2011، لم يكن نائب رئيس الجمهورية السابق، وأحد أعمدة النظام السوري أربعة عقود، يعني لهم أي شيء.
مات عبد الحليم خدّام، وحيدا في فرنسا. لم يمت رجل دولة، ولا سياسيا معارضا معتقلا سابقاً وهارباًمن بطش نظام بلده، بل ذوى شيئا فشيئا وزال عنه بريقه، ثمّ غاب عن الذاكرة في غياهب النسيان. وجاء تفشي جائحة كوفيد – 19 ليقلّل من عدد مشيعيه، ما سيجعل جنازته أكثر ضآلة.
كان عبد الحليم خدّام وزيرا لخارجية النظام السوري أربع عشرة سنة، قبل أن يغدو نائبا للرئيس. وكان، بالتعاون مع ضابط الأمن السوري البارز، غازي كنعان، الحاكميْن الفعليين للبنان، تحت الاحتلال السوري الذي استمر ربع قرن. وحين مات دكتاتور سورية السابق، حافظ الأسد، لعب خدّام دورا محوريا بتسهيل توريث السلطة للرئيس الحالي، قبل أن يفاجئنا جميعا أواخر العام 2005 بهروبه من البلاد إلى باريس، وانشقاقه عن الرئيس.
مأساة خدّام أنه خسر الدنيا ولم يكسب الآخرة، خسر مركز قوّته ودوره في النظام السوري، ولم يكسب تعاطف السوريين، ولا قواهم المعارضة. والسبب أنه تعامل مع السوريين، بعد انشقاقه، كما كان يتعامل معهم حين كان في السلطة. لم ينظر إليهم قط أندادا، ذَوَاتا، مواطنين، بل أرقاما، كقطيع من المؤيدين. ولذلك لفظه النظام كنواة بلح، ولم يحتضنه الشعب منقذا أو مخلّصا، أو حتى معبّرا عن بعض تطلعاتهم.
خطأه الآخر كان تصديقه وعود جهاتٍ إقليميةٍ زيّنت له الانشقاق، وهيّأت له أنه سيعود بعد أشهر أو سنوات إلى دمشق فاتحا، فيُقصي الرئيسَ الغرَّ، ويصبح سيّدها الجديد. أثبت خدّام أنه، وعلى الرغم من تاريخه السياسي، ومعرفته بدهاليز السياسة الخارجية، لا يمتلك خبرة السياسيين ولا حنكتهم ولا دهاءهم.
خطأه الثالث أنه قلل من خطورة النظام الأمنوقراطي في دمشق، على الرغم من خبرته الطويلة معه. وهو يتذكر المسرحية التي دفعت بشار الأسد إلى وراثة أبيه، لأنه هو نفسه كان أحد أبطالها. وكما جمع خدّام مجلس الشعب السوري خلال دقائق ليعدّل الدستور، تمّ جمع المجلس خلال دقائق، ولكن هذه المرّة، للتنديد بخيانته، والتذكير بكلّ الأفعال التي قام بها هو وأسرته في العقود الأربعة الفائتة.
الخطأ الرابع كان ابتعاد خدّام عن قوى المعارضة السورية. في تلك الفترة، كانت المعارضة قبيل انشقاقه قد جمعت صفوفها في إطار سياسي واحد، أطلقت عليه “إعلان دمشق”. ولكن خدّام، بصلفه المعروف، رفض أن يمدّ يده إليها، وفضّل بدلا من ذلك أن يتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين في تأسيس “جبهة الخلاص الوطني” التي أعلن عنها من بروكسل سنة 2006. وفات الرجل أن جماعة الإخوان التي كان هو أشدّ محاربيها في الثمانينات لا تملك القاعدة الشعبية، ولا السمعة اللائقة، لترفعه إلى مستوى القيادة السياسية.
وعلى الضفة الأخرى، لم تسرْ المعارضة خطوة باتجاه خدّام، لأنها لم تنسَ أنه، قبل سنوات قليلة فقط، أعلن الحرب عليها، من مدرّج جامعة دمشق في 18 فبراير/ شباط 2001، إذ وصف، في كلمته، دعوات الإصلاح السياسي في البلاد بأنها “جزأرة” لسورية، أي الدخول في حرب أهلية مثل الجزائر التي كانت وقتها تعيش حربا أهلية مدمرة، وبدأ هجوما شرسا على لجان إحياء المجتمع المدني، ووصف أعضاءها بأنهم عملاء لسفارات أجنبية ومدسوسون، ناعيا عليهم أنهم يريدون الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني ويهملون قضية الصراع العربي – الإسرائيلي التي هي “شاغل كل طفل في سورية وكل شيخ وكل امرأة وكل رجل … وكأن سورية بلد مرتاح إقليميا ودوليا”.
ولكن خطأ عبد الحليم خدّام الأول والأخير، وهو يرتقي إلى درجة الخطيئة، أن انشقاقه لم يكن عن النظام، وإنما عن شخص بشار الأسد فحسب، وفي حين جعل الخلاف بينه وبين بشار يبدو وكأنه شخصي أكثر منه سياسيا، ظلّ يحافظ وبقوّة على أمرين رئيسيين هما: عقليته البعثية التي ترى في السياسة حياكة للمؤامرات والدسائس الرخيصة، واستعلاء لدور الحزب الذي ينوب عن الشعب. وولاؤه المطلق لشخص ديكتاتور سورية الراحل حافظ الأسد. لقد ظلّ حافظ إلى آخر لحظة بالنسبة لخدّام “السيد الرئيس” الذي لا يُجادَل ولا يناقَش، ولا تُذكر معايبه. وحين انطلقت ثورة السوريين مطالبة بالحرية والكرامة، لم يحاول خدّام أن يقدّم نقدا ذاتيا لنفسه ولحزبه ولنظامه، ويمدّ للمنتفضين يدا صادقة، وإنما حاول أن يلعب على الوتر الطائفي البغيض، ما جعل المنتفضين الشباب لا يلتفتون إليه، ولا يأبهون له.
ولذلك كلّه، مات خدّام وحيدا ومعزولا وكئيبا. لم يُعلن الحدادَ عليه أحد من السوريين، فلا النظام نعاه، ولا المعارضة رثته، ولا السوريون المحبوسون في بيوتهم بسبب الخوف من الوباء، والخوف من القصف، شعروا نحوه بأي نوع من العطف أو الرثاء، فلم يترحّم عليه أحد. وحتى حلفاؤه المفترضون في جبهة الخلاص، أي الإخوان المسلمون، لم ينعوه في بيان رسمي، وإن غرّد أحد قادتهم، زهير سالم، بخجل، ناعيا الرجل، طالبا له المغفرة، بدون ذكرٍ لأي دور سياسي لعبه باستثناء أنه “كان انشقّ عن النظام في 2006”.
لبعض الأشخاص نكهة مميزة، لاذعة مثلا، أو مثيرة، أو سلسة، بينما يفتقد آخرون تلك النكهة، ولذلك يخرجون من مخيلتك لحظة يغيبون عن أنظارك. وقد يكون وزير الدفاع السوري الأسبق، مصطفى طلاس، مثالا عن الشخص الأول، بما له من كاريزما وسلاطة لسان ووله بالنساء. أما أفضل مثال للرجل الذي لا نكهة له ولا لون فهو عبد الحليم خدّام. لم يكن كثيرون يأبهون له حين كان في السلطة، ولا حين انشقّ عنها، ولا حتى يوم وفاته.
(العربي الجديد)