جسر: ترجمة:
هناك أمريكتان.
هناك أمريكا حيث يمكن للناس اقتحام مكتب الولاية ببنادقهم الطويلة، وتهديد المسؤولين المنتخبين، والصراخ في وجه رجال الشرطة، والفرار آمنين. وهناك أمريكا التي يمكن للمواطنين فيها التعرض للرصاص المطاطي وقذائف الطلاء أثناء سيرهم بسلام، أو أثناء وقوفهم للمشاهدة من على شرفات بيوتهم الخاصة. كل ذلك أمام الكاميرات.
هناك أمريكا التي يمتدح فيها الرئيس مواطنيها عندما يقومون بالتنكر بزي الجنود أو لعب دور المتمردين المسلحين، ويصفهم بأنهم “أناس طيبون للغاية”؛ الأمر الذي يدفع المسؤولين إلى “عقد صفقة ” معهم. وهناك أمريكا التي يوصف مواطنوها من قبل رئيسهم بأنهم ” بلطجية” ويجب تطبيق القانون و”السيطرة عليهم” عندما يتنامى دورهم خارج رغبة السلطة.
هناك أمريكا التي يمكن لمواطنيها الذهاب لممارسة هواية مراقبة الطيور في الطبيعة، واستخدام هواتفهم المحمولة في حديقة بيت جدتهم، وحمل السلاح بشكل قانوني؛ أو حتى الاسترخاء في منازلهم بأمان. وهناك أمريكا حيث يمكن أن تتحول مثل هذه الأمور العادية إلى أشياء قاتلة.
هناك أمريكا حيث يرفض الناس الأوامر بارتداء أقنعة القماش، وهناك أمريكا حيث الناس في حاجة ماسة لأقنعة الغاز. باختصار: هناك أمريكا البيضاء، حيث يمكن للمواطنين الحصول على الخدمات والحماية، وهناك أمريكا السوداء، حيث لا يمكنهم ذلك.
الآن لدينا فيديوهات يومية تؤكد حقيقة معاملة الشرطة المتحيزة لكلا الأمريكيتين، مع العلم أن هذه الحقيقة كانت موجودة قبل أن تلتقطها الهواتف المحمولة. تطبيق القانون باستخدام القوة المميتة كأول رد فعل ضد الأقليات، وخاصة أصحاب البشرة السوداء موجود منذ قرون في أمريكا. ومع وجود هذا التاريخ الطويل يصبح من السهل على اﻷمريكيين أن يقفوا على الحياد بشكل دائم. ” قدريّة ” كهذه من شأنها تعزيز اللامبالاة فينا تجاه أمريكا الخدمية والآمنة، ودفع المجموعات اليائسة المتزايدة خارج الحدود للهجوم علينا.
لكن هذه التمايزات في المعاملة ليست قدراً، بل هي نتيجة لخيارات سياسية اتُّخِذَت في بلدنا، وما زالت تُتخذ. لكن الخبر السار هو: يمكننا اتخاذ خيارات مختلفة.
فمن الواضح أن شعار ” لا مزيد من العنصرية ” ليس أمراً قابلاً للتطبيق بين عشية وضحاها، لاسيما عند إدراك أن التمايز العرقي في بلادنا مبنيٌّ على الأسس التي قامت عليها الأمّة. فالعنصرية العرقية لها طابع مؤسساتي في الحياة اﻷمريكية مما يجعلها مشكلة تتعدى المطالبة بتطبيق القانون، بل تتطلب تغييراً منهجياً يخترق مؤسساتنا الاقتصادية والثقافية. وتحرك الدولة نحو هذا الهدف سيحتاج إلى أدوات معقدة في مجالي القانون والإقناع الأخلاقي، وهذا مشروع سيستغرق عقوداً، ويحتاج لتضافر جهود عدة أجيال.
لكن ماذا عن الحد من عنف الشرطة، بما في ذلك العنف الذي يقتل عرقاً واحداً أكثر من غيره؟ هذا سيكون على الأرجح أسهل.
هناك دول صناعية أخرى استطاعت بالفعل إيجاد الحلول لتخفيض عدد القتلى جراء تطبيق القانون، بما في ذلك دول يسود فيها التعصب وتعاني من مسألة التنوع المجتمعي. ففي الولايات المتحدة وحدها قُتل أكثر من ألف شخص في العام الماضي برصاص الشرطة، في المقابل لم يقتل أكثر من مئة شخص برصاص الشرطة في آخر عقدين في كلٍّ من إنكلترا وويلز. عند قياس عدد قتلى رصاص الشرطة من حيث نصيب الفرد، لا تبدو الولايات المتحدة دولةً متقدمة.
جزء من المشكلة يكمن في الوفرة العامة للسلاح، (على سبيل المثال: معظم ضباط تطبيق القانون البريطانيين لا يحملون أسلحة نارية). على الرغم من ذلك فمن غير المرجح أن يُنزَع سلاح الشرطة اﻷمريكية، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود حلول أخرى.
ففي “مؤتمر القيادة حول الحقوق المدنية وحقوق الإنسان”، و”حملة صفر”، والعديد من المنظمات الأخرى قامت بتجميع مجموعة من الأدوات السياسية، والتشريعات النموذجية والكتيبات الشرطية، مع العديد من التوصيات المدعومة بأبحاث العلوم الاجتماعية. وقد تم التأكيد على سياسيات ليست بالضرورة تلك المستخدمة أو المعروفة؛ فعلى سبيل المثال: ليست هناك أدلة على فاعلية الكاميرات التي تضعها الشرطة.
بل إن هناك المزيد من الأبحاث التي تدعم إجراء تغييرات أخرى، مثل نزع الأسلحة؛ وهذا الأمر يبدو منطقياً؛ ففي حال جُهِّز رجال الشرطة بالدبابات وأسلحة حربية أخرى، فإن الشرطة ستستخدم الدبابات وتلك الأسلحة. بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن النتائج قد تكون أفضل في حال زيادة الرقابة المجتمعية، وتقليل الحواجز التي تحول دون الإبلاغ عن سوء سلوك الشرطة، وتدابير المساءلة الأخرى. كما تطرقت تلك الدراسات إلى اللهجة الغريبة في عقود نقابات الشرطة التي تحمي الضباط من مواجهة عواقب سوء السلوك. فعندما يتم إخبار الضباط بأنهم يستطيعون التصرف من دون عقاب، فإن البعض سوف يسيء التصرف.
الأهم من ذلك، يجب وضع حدود صريحة لاستخدام القوة المميتة، بما في ذلك حظر أساليب السيطرة التي تعتمد الخنق، والتكتيكات الأخرى التي تعيق تدفق الأكسجين أو الدم إلى الرأس أو إلى الرقبة. كما يجب تغيير القوانين التي تسمح بنشر القوة، لتقليل الحالات التي يمكن أن تستخدم فيها. ولا بد من إيجاد بدائل لتدخلات الشرطة المسلحة عندما يكون ذلك ممكناً، ولاسيما في المواجهات مع الأشخاص الذين يعانون من الأمراض العقلية. وقد اعتُمِدت مثل هذه الإجراءات بنجاح في بعض أقسام الشرطة في أنحاء البلاد.
لا شك أن وظيفة الشرطة وظيفة صعبة ومرهقة وخطِرة. وقد أثبت الضباط أنهم قادرون إلى حد ما على كبح جماح أنفسهم عند التعامل مع المواقف الصعبة والمرهقة والخطِرة، لكن في واحدة من الأمريكيتين. وعلى البلاد الآن أن تتخذ خيارات سياسية تجبر تنفيذ القانون بهدف خدمة وحماية أمريكا الأخرى، على الأقل في مسألة ضبط النفس.
_____________________________________________________________________________________
*نشر في واشنطن بوست اﻻثنين 1 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا