جسر: متابعات:
أدى الاغتيال المُستهدف للجنرال الإيراني قاسم سليماني، والشخص الأكبر أقدمية بين رجال الميليشيات في العراق أبو مهدي المهندس، ذلك القتل المبرَّر لكونهما العقل المدبر وراء مقتل مئات الأمريكيين، إلى انتشار مخاوف واسعة النطاق من اندلاع حرب وشيكة مع إيران يمكن أن تسبب وقوع خسائر لا تُحصى في الأرواح وتُزعزع الاستقرار في منطقة مدمرة أساساً. ومن المستحيل معرفة كيف سيكون رد إيران (وأقل بكثير كيف سيكون رد الولايات المتحدة بدورها)، لكنني أرى احتمالاً للنجاح في العراق – إذا تمكن التحالف بقيادة الولايات المتحدة والحكومة العراقية من التركيز على مصالحهما المشتركة ومواصلة القضاء على نفوذ إيران المؤذي.
وكشخص عمل في العراق مع كافة الإدارات الأمريكية منذ عام 2003، شعرتُ بالرضا والارتياح العميقين عندما قُتل سليماني والمهندس، بعد التفكير برحلتي الطويلة الخاصة في العراق، وبالأصدقاء والزملاء الذين خسرتهم هناك بسبب هجمات الميليشيات والحصانة المتنامية التي يتمتع بها أبرز القادة الميليشياويين. وأعلم أن هذا الشعور يتشاطره صناع السياسة في الحكومة الأمريكية، وفي المجتمعات العسكرية والاستخباراتية التي تتعاطى الشأن العراقي. ولمعظمنا تاريخ طويل مع العراق، وبشكل غير مباشر مع شخصيات من أمثال سليماني والمهندس. وبالفعل، كان نفوذ سليماني الضخم في المنطقة كبيراً للغاية ولفترة طويلة جداً، مما دفعنا إلى عقد اجتماع حول طاولة مستديرة في الربيع الماضي للتفكير بما قد يحصل إذا لم يعُد سليماني في السلطة.
لقد شهد العامان الماضيان على النصر المشترك الذي حققاه سليماني والمهندس في العراق. فقد اختار سليماني رئيس الوزراء وحرص على عدم تدخله بأي شأن مهم يديره المهندس في البلاد. لذلك، كان هناك شعور بالرضا من قطع تقدمهما، لاسيما في أعقاب الاحتجاجات الشعبية في العراق وإيران ولبنان التي أشارت إلى أنهما ربما قد تجاوزا الحدود.
والآن، من الضروري أن تستفيد الولايات المتحدة من هذا الفوز وتتبنى سياسات مدروسة أكثر تُظهر قدرة واشنطن على التوقف لبرهة، والتأمل في المصالح المشتركة مع العراق والتحالف، والانتظار حتى انقشاع الغبار. وعلى الرغم من أن المداولات المتأنية والتعاون مع الآخرين ليسا من سمات الإدارة الأمريكية الحالية، إلا أن هناك بعض الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل.
ويمكن القول إن مقتل سليماني والمهندس سيُنهي حقبة ما بعد عام 2014 التي اتسمت بشراكة استراتيجية وعسكرية بدعوة من العراق. ويوم الأحد، وافق كل من البرلمان العراقي ورئيس الوزراء العراقي من حيث المبدأ على وجوب إنهاء وجود القوات المقاتلة الأمريكية في البلاد، وإن لم يتمّ تحديد عملية أو جدول زمني واضحين. وثمة العديد من العقبات الإجرائية التي تذرّع بها السياسيون العراقيون لعدم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في الماضي، علماً بأن كافة النواب الأكراد ومعظم النواب السنّة لم يشاركوا في الجلسة التي عقدها البرلمان يوم الأحد. ومن بين الداعمين الآخرين للتعاون الأمني المستمر مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة معتدلون عراقيون، ومحترفون عسكريون، وتكنوقراط وحتى (وإن بشكل غير علني) نسبة لا بأس بها من الشيعة.
وعلى الرغم من الصدمة التي أحدثتها الإجراءات الأمريكية الأخيرة، ما زال العديد من العراقيين يريدون حقبة جديدة من التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والدول الثمانين الأخرى ضمن التحالف العالمي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهي دول اعتمدت جماعياً مبدأ “ندخل البلاد فور دخول الولايات المتحدة ونخرج فور خروجها”، مما يعني أنها لن تواصل دعمها داخل العراق من دون الولايات المتحدة. ويتذكر الجميع ما حدث بعد الجلاء المفاجئ والتام للقوات الأجنبية في عام 2011، علماً بأن عدداً قليلاً من خارج الميليشيات المدعومة من إيران يرغب في تكرار هذه الحلقة، التي فتحت المجال أمام نهوض تنظيم «الدولة الإسلامية» وشبه انهيار العراق كدولة. كما أنهم لا يريدون أن تتمتع إيران بنفوذ غير مقيّد في العراق.
إطار جديد للعراق والتحالف
سيشكّل القرار الذي اتخذه مجلس النواب العراقي يوم الأحد بدايةً لعملية يتعيّن في إطارها على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والعراق إعادة النظر في شروط التعاون بينهما لأن لدى كلا الطرفين شكاوى عميقة الجذور. فالعراق قلق بحق إزاء واقع اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات عسكرية داخل أراضيه، في عمليات استهدفت مواطنين عراقيين ولم يٌصرّح بها من قبل الدولة العراقية.
ولكن هناك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى عدم الرضا من الجانب الآخر أيضاً. فالولايات المتحدة والعديد من الشركاء الرئيسيين، مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، لديها مخاوف جدية من عدم شعور الحكومة العراقية بالقلق إزاء الانتهاكات الإيرانية للسيادة العراقية، وحول واقع قيام الميليشيات بتقويض إصلاحات القطاع الأمني وقتل مدنيين عزّل بشكل فاضح، فضلاً من عدم الوجود الفعلي لحكومة مخوّلة منذ استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وسط احتجاجات شعبية في تشرين الأول/أكتوبر.
يجب أن يشكّل ذلك نقطة انطلاق لحوار حول تأسيس حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية والعسكرية بين الولايات المتحدة والعراق تقوم على التفاهم المشترك. فسواء سقط العراق بيد تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أسياد الحرب الميليشياويين والحرب بالوكالة بين أمريكا وإيران، ستكون النتيجة نفسها: لاجئون وفوضى وحرب.
صحيح أن الولايات المتحدة وشركاءها في التحالف متواجدون في العراق لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكن هدفاً مشتركاً آخر يجمعهم مع العديد من العراقيين قد يوفر أساساً ممتازاً للتعاون في المستقبل، هو: صمود دولة عراقية تتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية.
ويُعتبر وجود القوات الدولية موثقاً من خلال تبادل رسائل في حزيران/يونيو 2014. وإذا أصرّ العراق على طلب مغادرة القوات الأمريكية، سيستغرق الانسحاب فترة تصل إلى عام واحد. وخلال تلك الفترة الممتدة بين اتخاذ القرار وتنفيذه، قد يتمّ توجيه رسالة جديدة، في الوقت الذي قد يكون فيه العراق قد أجرى انتخابات مبكرة وانتخب رئيساً جديداً للوزراء يتمتع بتفويض قوي لوضع شروط جديدة للتعاون. يجب صياغة إطار العمل الجديد بواسطة مجموعة اتصال تضم عراقيين وأعضاء من التحالف. وبشكل غير مباشر، من خلال العمل عبر وسطاء موثوقين، يجدر بالمؤسسة الدينية الشيعية بزعامة آية الله علي السيستاني وأتباع الشعبوي القومي مقتدى الصدر توجيه إطار العمل الجديد أيضاً.
إعادة بناء العراق المستقر والديمقراطي
لا يجب أن يكون إطار العمل الأمني الجديد للعراق مع التحالف محصوراً بمحاربة الإرهابيين، بل يجب أن يركز على ضمان سيادة واستقرار وديمقراطية العراق – وهي شروط تتدهور جميعها بسرعة في البلاد. وإذا اجتمع المسؤولون الأمريكيون والعراقيون للتفاوض بشأن إبرام شراكة جديدة، (وعندما يجتمعون)، فلدى الجانب الأمريكي عدد من التقديمات التي من شأنها أن تعزز هذه الركائز الثلاث لعراق أقوى.
السيادة. على دول التحالف أن تولي احتراماً أكبر لاستقلالية العراق – وأعتقد أنها ستقوم بذلك، مما يعني قبول قيود أكبر على قوات التحالف. لكن يجدر بالحكومة العراقية أولاً أن تُظهر قدراً أكبر من الإنصاف في معاملتها للدول الأجنبية.
ولإعطاء ثلاثة أمثلة على ذلك: أدان العراق الضربات الأمريكية على «كتائب حزب الله» في 29 كانون الأول/ديسمبر، لكنه لم يدن إقدام «كتائب حزب الله» على قتل مقاول أمريكي في 27 كانون الأول/ديسمبر، وهي الحادثة التي دفعت بالولايات المتحدة إلى الانتقام. ودافعت قوات الأمن العراقية التي تهيمن عليها الميليشيات بشدة عن السفارة الإيرانية ضد محتجين غير مسلحين لعدة أشهر، لكنها سمحت لميليشيات مدعومة من إيران باختراق “المنطقة الدولية في بغداد” في غضون دقائق لمحاصرة السفارة الأمريكية. وبالمثل، كان سليماني يدخل إلى العراق بطريقة غير شرعية متى رغب في ذلك وكيفما أراد، في حين يخضع المسؤولون في التحالف إلى إجراءات الهجرة لدخول البلاد.
وإذا رأى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أن العراق يتصرف بإنصاف، فسوف يوافق بسهولة على التقيدّ بضوابط أكثر صرامةً.
الاستقرار. يستتب أمن العراق طالما تكون قواته الأمنية فعالة، والتي بدونها لكان تنظيم «الدولة الإسلامية» والميليشيات قد تصرفوا بحرية مطلقة، مما كان سيدفع كلاً من اللاجئين والمستثمرين إلى الفرار من البلاد.
يملك التحالف ورقة مساومة قوية يمكنه استعمالها لحث العراقيين على مواجهة الهيمنة الإيرانية المدمرة على الشؤون الداخلية لبلادهم. وقد تخطت هبات قوات التحالف للعراق في مجال التعاون الأمني 1.5 مليار دولار كل عام، وعرّضت أكثر من 5 آلاف من جنودها للخطر، لكن لا يسعها تبرير هذا الكرم إلا إذا اعتقدت أن قوات الأمن العراقية تتطور كمؤسسات قوية.
واليوم ليس هذا هو الحال. فالميليشيات المدعومة من إيران تقوم بالتخطيط لإقالة أفضل الجنرالات العراقيين، مثل قائد قوات “جهاز مكافحة الإرهاب” عبد الوهاب الساعدي، والمسؤول في “قيادة عمليات بغداد” جليل الربيعي. ولا بدّ من تغيير هذا الواقع.
كما أن ميليشيات على غرار «كتائب حزب الله»، المنظمة التي صنفتها الولايات المتحدة إرهابية وقامت بضربها في 29 كانون الأول/ديسمبر، تدير الآن خدمات الأمن ومناولة الأمتعة في مطار بغداد الدولي. كما تتحكم بالمجال الدبلوماسي والحكومي. وهذا أمر غير مقبول لجميع شركاء العراق الدوليين وللكثير من العراقيين.
يجدر أيضاً بالتحالف أن يصغي إلى الطبيعة المتغيرة لاحتياجات العراقيين. فقد كان توفير المساعدات العسكرية عموماً هو الخيار الصائب في عام 2014، عندما كان تنظيم «الدولة الإسلامية» على مشارف بغداد. ولتجنب أي انهيار اقتصادي مستقبلي بسبب وجود ما يقرب من مليون باحث جديد عن عمل كل عام، يحتاج العراق إلى شراكة اقتصادية واستثمارات ووظائف في القطاع الخاص. وإذ يمثل التحالف 12 دولة من دول مجموعة العشرين، فهو يُعتبر منصة جاهزة من “أصدقاء العراق” تتمتع بقوة اقتصادية لا تضاهى.
الديمقراطية. اعتُبرت الانتخابات الوطنية التي شهدها العراق عام 2018 محلياً ودولياً على أنها الأقل حرية ونزاهة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
وفي ظل استقالة رئيس الوزراء ودعوة المحتجين إلى انتخابات جديدة، على كافة الشركاء في التحالف الدولي البالغ عددهم 81 عضواً دعم إجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة قبل تلك المزمع إجراؤها عام 2022، وهي نتيجة دعت إليها أيضاً الأمم المتحدة. ويمثّل هذا التحالف معظم العمالقة الاقتصاديين والدبلوماسيين في العالم، وعندما يتحدثون بصوت واحد، بإمكانهم إضفاء شرعية كبيرة على عملية سياسية جديدة أو، بدلاً من ذلك، الابتعاد عن عراق غير ديمقراطي. وإلى حين تشكيل حكومة تستعيد شرعيتها، سيبقى العراق ساحة لعب للميليشيات العازمة على إبقاء حالة الفوضى وإدارة الدولة في ظل وجود فراغ في السلطة.
وفي حين يشكل التخلي عن قوات التحالف خياراً للعراق، إلا أن هناك تداعيات هائلة لهذا الخيار قد تطال حكومة جديدة استعادت شرعيتها. وإذا سُمح للقوات الأجنبية بالبقاء في العراق، و”إذا” اختارت البقاء، لا بدّ من إعداد إطار عمل جديد يدير المرحلة الجديدة ما بعد «الدولة الإسلامية» والمتمثلة بإرساء الاستقرار في العراق.
أخيراً، تريد معظم الفصائل العراقية، ونظراً لمدى الاحتجاجات التي عمّت البلاد، يريد معظم الشعب العراقي أيضاً سيادة حقيقية وشراكة دولية فعلية؛ واستقرار حقيقي تكفله قوات الأمن المهنية وليس الميليشيات. فهم يريدون ديمقراطية حقيقية وليست مزيفة، تُسفر عن انتخابات جديدة حرة ونزيهة تمنح الجيل الشاب فرصة لإعادة العراق، الذي يُعتبر إحدى أقوى دول الشرق الأوسط، إلى المسار الصحيح.
مايكل نايتس باحث في معهد واشنطن. وقد نشرت هذه المقالة في الأصل على موقع “بوليتيكو”.
المصدر: معهد واشنطن لدراسات الشرق اﻷدنى