خاص/ درعا
في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى بعض البسط والفرشات الاسفنجية البالية، بجانب حائطها خزانة قديمة تضم كتباً ودفاتر مدرسية وضعت في حقائب مهترئة، تجلس إيمان تلك المرأة الثلاثينية تحتضن طفلاتها الثمانية، ويعلو صراخ الثامنة التي لم تكمل شهرها الأول تبكي جوعاً، ولكن ما الذي سيقدمه ذلك الجسد المنهك من الفقر والجوع ليطعمها؟
حان موعد الطعام لتلتف تلك الأسرة المكونة من الأم والبنات والجدة حول مائدة بالكاد تحوي صنفين من الطعام وبعض أرغفة الخبز، معيلها كان داعشياً، اعتقل ليترك إرثه بلا مورد رزق يسد رمقه.
تقول إيمان وهي من محافظة درعا “انضم زوجي إلى تنظيم الدولة منذ أربع سنوات، وقبل معركة درعا بسنتين تقريباً، انتقلنا من بلدتنا بريف درعا الشمالي إلى بلدة الشجرة في منطقة اليرموك، حيث يسيطر التنظيم هناك بشكل كامل، اندمجنا بكل سهولة مع المجتمع الجديد الذي حملت أفكاره أنا و عائلتي قبل سنتين، فعقيدتنا وفكرنا واحد، قبل المعركة كنا نعيش في بيوت عادية، ويطبق علينا نظام كامل أشبه بأنظمة الدولة، تطبق فيها احكام الشريعة كافة، وهناك اختلاف كبير يميزه عن الحياة البسيطة التي كنت أحياها”.
لم تستمر تلك “الحياة الهانئة” التي عاشتها إيمان، فمع بدء معركة درعا وعمليات القصف، كانت العائلة تلجأ إلى حفر أشبه بالخنادق تنتهي بأنفاق توصل لمناطق محددة و معينة، تقول إيمان “غاب زوجي عني لمدة ثلاثة أسابيع، وترك لنا مؤونة من الأكل و الشرب لا تكاد تكفينا أيام قليلة أنا و طفلاتي السبعة لأني خلال اربع سنوات ولدت اربعة مرات حسب الشريعة ووفقاً لعرف التنظيم فالزوجة “الودود هي الولود”، و بعد ثلاثة اسابيع ومع سيطرة النظام على معظم المناطق حولنا، اشتد القصف علينا، و أمضينا باقي وقتنا في تلك الحفر حيث لا أكل هناك يكفينا ولا شرب أو حتى أية خدمات صحية، في الأيام الأخيرة عشت مع طفلاتي ومجموعة من نساء ورجال التنظيم حياة أقرب إلى الموت، حينها أدركنا أن لا مهرب لنا سوى الخروج و العودة الى بلداتنا، لذلك قررنا الهروب من ذات الحفر و عبر الأنفاق الموجودة فيها، و بقينا في هذه الأنفاق مدة ثلاثة أيام حتى وصلنا بالنهاية إلى منطقة تسمى وادي اليرموك”.
رحلة إيمان كانت طويلة، مئات النساء والأطفال فضلاً عن الجرحي يشقون طريقهم بحثاً عن مكان آمن، “تابعنا السير نحو بلدتنا، وأمضينا وقتاً طويلاً في مناطق زراعية مجهولة، و عشنا رعباً و خوفاً كبيرين، خاصة في الليل حيث القصف يلاحقنا في كل مكان، بالنهاية استطعت الدخول إلى مدينة عرفت انها مدينة “نوى”، ومنها تواصلت مع أهلي، وأخبرتهم بمكاني، وهكذا عدت إلى بلدتي، إلا أنني كنت غريبة عنها”.
لم يستقبل الأهالي إيمان كما كانت تظن، فقد كانت معاملتهم سيئة ويحتقرون انتماءها، تقول هناء أخت ايمان “جاءت إيمان بعد سنتين من العيش في دولة الخلافة كما تدعي، مشبعة بأفكار التنظيم كافة، وكانت تحض على الجهاد رغم فقدانها لزوجها، وذلك من أجل بناء دولة الخلافة التي رسمتها في مخيلتها، و غالبا ما تتهمنا بالكفر، والآن تعيش ايمان بعد اعتقال زوجها الذي لا تعرف شيء عن مصيره، حياة قاسية مع طفلاتها الثمانية حيث لا معيل لهن ولا مصدر رزق، سوى دكان صغير بالكاد يسد الرمق، و هي الآن، و مع عودتها الى حياتها البسيطة معنا واندماجها، تعيد النظر بواقع قد أرغمت عليه سابقاً”.
ولا تختلف قصة إيمان عن وفاء ابنة العشرين عاماً وهي من ريف درعا الشمالي، إلا أن زواجها جاء مع مجئ التنظيم، تقول وفاء “تزوجت من أمير في تنظيم الدولة عندما كنت في الخامسة عشر . و هو أردني الجنسية، ويكبرني بعشرين سنة، أقنعني أخي بالزواج به فهو صديقه، و خلال ثلاث سنوات أنجبت طفلين، وفوجئت أنني لم أستطع تسجيل الطفلين في أمانة السجل المدني رغم عدة محاولات باءت بالفشل، و لكن المصيبة الكبرى وقبيل معركة درعا بفترة بسيطة غادرنا زوجي دون أن يخبرني بذلك و لم يعد الى الآن، و هنا تكمن المشكلة، فأولادي اصبحوا بحكم الأبناء غير شرعيين، و أنا اليوم عاجزة و اقف امام مشكلة تسجيل ابنائي من اجل الحصول على أبسط حقوقهم، و عاجزة أمامهم لاني لم استطيع تسجيلهم أو حتى تعليمهم في المدرسة كأقرانهم من الأطفال”.
تقر وفاء بخطورة ومدى انتشار هذه المشكلة التي تعانيها الكثير من نساء بلدتها، فهن عاجزات عن إثبات نسب أطفالهن من اجل المضي معهم للحصول على ابسط الحقوق، تقول “تلاشى تنظيم الدولة من الجنوب السوري أو بالأحرى، تبخر مخلفاً وراءه الكثير من الخسارات، لا تقتصر على الخسائر المادية أو البشرية، ولكنها تركت خدوشاً و جروحاً في نفوس رقيقة و هشة لا تكاد تقوى على تحملها”.