مصعب الحمادي
في ربيع عام ٢٠١٣ وجدتُ نفسي أنتقلُ لفترةٍ قصيرة بما يشبه السفر بآلة الزمن المزعومة من الشمال السوري، حيث المعارك كانت على أشدها بين النظام والمعارضة، إلى الولايات المتحدة للدراسة والتدريب وإجراء بعض اللقاءات.
من النشاطات التي حضرتها كانت ندوةٌ أقيمت في جامعة برنستون العريقة، وكنت بعد الندوة متوجهاً مع صديقين سوريين رافقاني بالزيارة إلى العاصمة واشنطن.
دارت نقاشاتٌ في الندوة عن الحرب السورية والدور الأمريكي، ولأني كنت وقتها أمرّ بمرحلة ما يمكن أن أسميه “الحماس الثوري،” فقد تكلّمت بثقةٍ زائدة، وقلت في مداخلاتي إن الجيش السوري الحرّ سيسحق النظام ويُحرّر سوريا، وأنه من الأفضل للأمريكان أن يدعمونا ويكسبوا ثقتنا منذ الآن، فنحن المستقبل بالنسبة لسوريا، وسقوط النظام مسألة وقت.
في إحدى فترات الاستراحة بين النقاشات، تقدم إليّ ديبلوماسي أميركي عجوز أمضى سنيناً طويلة سفيراً لبلاده في إسرائيل، وقال لي: “أنا معجبٌ بحماسك لكنك ستسافر بعد برنستون إلى واشنطن فلا تقل هذا الكلام هناك”.
سألت الشيخ: لماذا؟ فقال: “لقد أمضينا سبعين سنة من دون علاقاتٍ “خاصّة” بسوريا، ومن السهل أن نمضي سبعين سنةً أخرى كذلك!”.
أعجبتني جداً بلاغة هذا الديبلوماسي المخضرم في التعبير عن العلاقة الأمريكية السورية، ولم أسمع أبلغ من تعبيره هذا في آلاف التحليلات والآراء والتعليقات التي سمعتها بخصوص الموضوع منذ ذلك اليوم. وأيضاً؛ لقد طبّقتُ نصيحته! خففتُ من حماسي الثوري في واشنطن. وعندما ألقيت محاضرة في معهد السلام والأمن الدولي، ركّزت فيها على أحوال الناس تحت القصف في الشمال السوري، وفي اللقاءات العابرة التي أجريتها مع زميليّ السوريين ركزت على عدالة قضية الجيش الحرّ، وأن الحرب السورية نبيلة تنادي بالقيم نفسها التي تؤمن بها أمريكا والغرب عموماً.
لكنّ واحداً من بيننا نحن السوريون الثلاثة كان له رأيٌ مختلف. فالأستاذ قتيبة الإدلبي الذي كان مُبتعثاً من طرف الشيخ معاذ الخطيب كان يركز في مداخلاته على دور الإسلاميين، وخصوصاً جبهة النصرة، في قتال النظام. وفي إحدى المرّات وعندما قاطعني قتيبة بطريقةٍ غير لبقة ليثبت وجهة نظره لم أفوّت الأمر، ودخلت عليه غرفته في الفندق بعد انتهاء الاجتماعات لأحذّره من مغبّة ما يقول. أفهمته أن الدفاع عن جبهة النصرة المبايعة للقاعدة وتصويرها على أنها من تقود الثورة أمر يرتقي لشبهة الخيانة العظمى لأن فيه طعن بالشعب السوري، وتصوير الثورة على أنها قتالٌ بين الأسد والمتطرفين، وهذه دعاية النظام أصلاً!
كان الديبلوماسي العجوز الذي التقيناه في برينستون على حقّ! فواشنطن التي توصف بأنها الماكينة الديبلوماسية في أمريكا هي مكان خطيرٌ لرمي الكلام على عواهِنه.
عدت بعد انتهاء الرحلة الأمريكية إلى الشمال السوري، وعاد أحد الأصدقاء السوريين إلى تركيا، لكن قتيبة بقي في واشنطن. أتمنى له التوفيق ولكن لا أتمنى أن أراه ممثلاً لائتلاف المعارضة السورية في واشنطن، وهو المنصب الذي يتقلده منذ العام الماضي. ففي ذلك خدمةٌ كبيرة لتنظيم “هيئة تحرير الشام” والمدعو أبو محمد الجولاني والإرهابيين الذين يحكمون أهل إدلب اليوم بالحديد والنار، حتى بات كثيرٌ من الناس يرى النظام أرحم منهم.
ما هذه العبثية من طرف قيادة الائتلاف في اسطنبول؟ لكن -وإنصافاً لقتيبة- أسأل نفسي ما هو الائتلاف أصلاً؟ ألم يكن طوال مراحله أقرب للإخوان والجهاديين بل ولتنظيم القاعدة أكثر من الشعب السوري؟
أنا أراه هكذا، وبكلّ تجرّد. فمن نلوم كسوريّين؟ هل نلوم المعارضة الإسلامية على حماقتها وانتهازيتها؟ أم نلوم تركيا التي تؤويها وتشغّلها عندها؟ أم نلوم “كبير البيت” أمريكا التي تقبل مدّ حبال المودة مع تنظيم إرهابي يتحكم برقاب الملايين في إدلب؟
لكن أمريكا غير مهتمّة، كما قال ذاك العجوز في برينستون، ولأنها غير مهتمّة فإنها تغمض عينها عن كثيرٍ من التفاصيل. فهل يجوز أن نغمض نحن السوريون أعيننا؟ أليس في الأمر حتفنا ومصيرنا؟ وأمانة من مات وتشرّد وتعفّن في ظلام السجون؟