جسر: رأي
مع التغيرات الميدانية الكبيرة والتحرّكات العسكرية الضخمة التي شهدتها مناطق واسعة من ريفي حلب وإدلب شمال سورية، يبدو أن لعبة الشطرنج الروسية – التركية على الأرض السورية قد دخلت مراحلها الحاسمة، على عكس كل التوقعات التي تنفي انطلاق الجولة الحاسمة من المنافسة الروسية – التركية على الرقعة الإدلبية، خصوصاً مع مقتل 33 جندياً تركياً بنيران النظام السوري، فالتطورات التي حصلت أخيراً في ريفي حلب وإدلب، وتقدّم النظام والمليشيات المساندة له بغطاء جوي روسي وإعادة السيطرة على عشرات المدن والبلدات والقرى ضمن هذه المنطقة، يجب أن تُفهم في سياق معطيين اثنين، وهما: يتعلق الأول بهدف روسيا النهائي في سورية، والذي عبّر عنه الرئيس بوتين والوزير لافروف مراراً، وهو تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، وهو معطى ثابت، ويستند، من الناحية العملية، على سياسة القضم والتقدّم الحذر التي طبقتها روسيا في كل المناطق التي استعادها النظام بقيادة الضباط الروس. ويتعلق المعطى الثاني بهدف روسيا من القضاء على الثورة السورية، والتوصل إلى تسوية سياسية من خلال شروط اتفاق أستانا المعدّل، للخروج بأكبر مكاسب ممكنة، وهو معطى ثابت أيضاً، ويستند على رغبة روسيا في تأكيد دورها سياسياً في الحل السوري، كما أكدّت دورها عسكرياً بعد التدخل العسكري المباشر في سورية في خريف 2015، والذي جاء وفق قاعدة اغتنام الفرص ودرء المخاطر.
وفي إطار هذين المعطيين، لا يمكن لتركيا أن تقف موقف المتفرّج، وذلك لسببين: الأول أن سيطرة النظام على كامل الجغرافيا السورية سيضر بالأمن القومي التركي، سواءً من ناحية تدفق مزيد من السوريين إلى تركيا كلاجئين، وهو أمر لن تقبل به تركيا التي تأوي قرابة أربعة ملايين سوري، لا لضعف الإمكانات أو لصغر مساحة تركيا، ولكن لما بات يسبّبه السوريون من ضغط على حكومة حزب العدالة والتنمية التي باتت تواجه تزايداً في أعداد الأتراك الرافضين الوجود السوري على الأرض التركية، أو من ناحية الإبقاء على قوات سورية الديمقراطية (قسد) بسلاحها الخفيف والثقيل على الحدود السورية – التركية، وهو أمر مرفوض تركياً، وبسببه قامت تركيا بثلاث عمليات عسكرية على هذه الحدود، درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام.
السبب الثاني أن تركيا لن تقبل أن يكون اتفاق أستانا ومساره المعدّل، كما تأمل روسيا، نادياً لأصدقاء النظام السوري على حسابها، وعلى حساب مصالحها، ومن ثم لن توقع على حكم الإعدام للثورة السورية، وما قد يعقبه من تبعاتٍ ستؤثر مباشرة على أمنها القومي، وعلى فقدان قدرتها على التأثير في الشأن السوري، سياسياً وميدانياً.
وبالتالي هناك معطيات ومؤشرات تدلل على أنّ التنافس الروسي – التركي على رقعة الجغرافيا السورية قد دخل مراحله الحاسمة، من أهمها:
إن إدلب بالنسبة لتركيا لم تعد مجرد مدينة حدودية معها تأوي أربعة ملايين مواطن ومهجّر سوري، وإنما باتت مساحة جغرافية مهمّة تدخل ضمن اهتمامات الأمن القومي التركي. وأن إدلب باتت مقراً لحشود عسكرية تركية، وذلك بعد دخول أرتال عسكرية تركية عديدة، غلبت عليها الأرتال القتالية إلى قرى ومدن إدلب وتموضعها فيها. اللقاءات العديدة التي جمعت الجانبين، الروسي والتركي، سواءً في تركيا أو في روسيا، في الأيام القليلة الماضية، والتي لم تتوصل إلى أي اتفاق أو حل يرضي الطرفين. التهديدات التركية المتعاقبة التي وُجهت للنظام السوري، وأعطته مهلة لآخر الشهر الماضي (فبراير/ شباط) لسحب قواته من محيط نقاط المراقبة التي أقامتها تركيا في المنطقة بموجب اتفاق “مناطق خفض التصعيد”. الإصرار التركي على رفض خريطة “منطقة خفض التصعيد” الجديدة التي تطرحها روسيا عوضاً عن الخريطة السابقة. الإصرار الروسي على استكمال العمليات العسكرية حتى السيطرة على كامل الطريقين الدوليين حلب – اللاذقية 4 M، وحلب – دمشق M5، والإبقاء على المدن والبلدات التي دخلتها قوات النظام على جانبي الطريقين تحت سيطرته.
في ظل المعطيات السابقة، يبدو أن الأزمة الحالية التي تواجه العلاقات الروسية -التركية فيما يتعلق بالملف السوري تعتبر الأسوأ منذ حادثة إسقاط الأتراك للمقاتلة الروسية على الحدود السورية – التركية عام 2015. ومع ذلك، لا يتوقع أن يحدث صدام مباشر بين الروس والأتراك في سورية، فما يجمع الطرفين في ملفات أخرى عديدة أكبر بكثير مما يفرقهما في الملف السوري، لذا لن ترغب تركيا في الدخول بصدام مباشر مع روسيا، وروسيا أيضاً لا تريد خسارة تركيا، الأمر الذي قد يدفع الطرفين باتجاه البحث عن حلول استثنائية، ربما تظهر على شكل تعديل على تفاهمات سابقة، والخروج بصيغة جديدة تلبي جزءاً من مطالب البلدين. وفي حال عدم توصل الطرفين لهذه التفاهمات الجديدة، سيكون الخيار الأخير المتاح أمام تركيا هو الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة بالاشتراك مع فصائل المعارضة السورية ضد قوات النظام السوري والمليشيات المساندة لها، وهو خيار يرى خبراء عديدون أنه سيكون لصالح تركيا وفصائل المعارضة، بشرط تحييد الطيران الروسي الذي قد يستهدف القوات التركية على الأرض. فتركيا باتت اليوم، لا سيما بعد مقتل عدد ليس هيناً من جنودها، فيما يتعلق بالملف السوري، أمام مفترق طريق متعدد الاتجاهات، ولا بد لها من اختيار الطريق الأفضل بالنسبة لمصالحها القومية، فهل تذهب باتجاه تنفيذ تهديداتها بكبح تقدم قوات النظام والميلشيات المساندة لها وإعادتها إلى ما خلف نقاط المراقبة التركية؟ أم أنها ستتوصل مع روسيا إلى تفاهمات جديدة تحتوي أجواء الحرب التي باتت أصوات طبولها تُسمع بقوة؟ ستتكشف تكتيكات اللعب الروسي – التركي على رقعة الشطرنج السورية، ولمن ستكون النقلة الأخيرة.
(العربي الجديد)