حسام الدين محمد/ القدس العربي
في «بريك لين»، أحد شوارع لندن القديمة المليء بالألوان والروائح وتنوع الأعراق والإثنيات والتواريخ (وأصبح اسم رواية للبريطانية البنغالية مونيكا علي) وجدت، قبل قرابة عشرين عاما، في إحدى بسطات الكتب المستعملة كتابا بعنوان لافت للنظر: «الطوائف السرية في سوريا و(جبل) لبنان». المفاجأة كانت أن الكاتب بيرنارد سبرينغيت، لم يكتب الكتاب لجمهور العامة، بل لجمهور «طائفة سرية» أخرى، هي «الماسونيون الأحرار»، مفتشا في تلك الطوائف القديمة عن جذور تاريخية لطائفته، ورغم أن الكتاب مطبوع عام 1923، والكثير من مقارباته فيها شطط وخروج عن طرق البحث العلمي، فهو مفيد للبحث في مجالات علميّة كثيرة، من السياسة وعلم الأديان إلى التاريخ والأدب.
أطروحة الكتاب الأساسية تجعله مبهما على من لا يعرف الماسونية نفسها، بل إنه في مقدمته للكتاب يلاحظ سبرينغيت رفضا لدى «التلميذ الماسوني العادي» لفكرة أن منظمته السرية، التي اعتبرت، لقرون، تجمعا لأصحــــاب النفــــوذ الهائل في النخب السياسية والمالية والأدبية، يمكن مقارنتها، أو أن لها جذورا تاريخية أو فكرية، مع الطوائف التي ذكرها، ويبدو أن تلاميذ الماسونية تقبلوا الصلات بالحضارات القديمة، لكنّهم لم يتقبلوا صلات بطوائف سرّية إسلامية، ويبدو أن هذا ما وجه عمل سبرينغيت نحو كشف أن هذه الطوائف السرّية الإسلامية تحمل بدورها جذورا من ثقافات أقدم وأديان منها، كالمسيحية واليهودية.
جذور تاريخية
ينبع الافتتان بالطوائف المذكورة من السرية التي تكتنفها، والتي تجعل الغموض يلف نشوءها وجذورها مثل الماسونية نفسها، وينسحب هذا الغموض على أسمائها نفسها، فالنصيريون، كما يسميهم الكتاب، أخذوا في حقبة لاحقة اسم «العلويين»، وهو اسم أكثر رفعة كونه يجمعهم بالأئمة من آل البيت، أما الدروز، فرواياتهم تُجمع على أن الشخص الذي تعود هذه التسمية إليه، نشتكين الدرزي، هو داعية تم نبذه لاحقا من مؤسس الطائفة اللاحق حمزة بن علي، وهي مسألة عجيبة حقا وتظهر أشكال الالتباس الكثيرة التي ترافق ظاهرة الطوائف السرية.
تخلق السرية، في حالتي الماسونية والطوائف السرية ديناميّات متشابهة، بدءا من نزعة الخوف من الاضطهاد بسبب ما يمكن ان تعتبره الأغلبيات الدينية هرطقة وعداء لعقيدتها ورموزها وطقوسها (وهذا ما عاناه الماسونيون من قبل الكنيسة الكاثوليكية وعانته الأقليات الدينية الإسلامية)، مرورا بالانغلاق والميل لرؤية الخارج بصورة متشددة وعدائية، ووصولا للعمل على اختراق الأغلبيات والسيطرة عليها باستخدام وسائل مراكمة النفوذ المالي والسياسي والأدبي.
ويروي الكتاب الكثير من قصص الغربيين (من الماسونيين وغير الماسونيين) الذين حاولوا فك ألغاز تلك الطوائف السرية، وتنكبوا المشقات في سبيل الأمر، ومنها قصة ملازم بريطاني ماسوني يدعى ف. وولبول، زار سوريا والعراق في عام 1850 وفعل الأفاعيل ليحصل على أسرار الديانة «النصيرية» (كما يسميها الكتاب)، وأنه تعرض لأشكال من المشاق، وتم ضربه، ورجمه، والإساءة إليه، إلى أن توصل إلى المعلومات التي جمعها ونشرها في كتاب.
امتحانات الدخول والارتقاء
في مقارنتها بالطوائف السرية السورية، تتشابه الماسونية كثيرا في التراتبية والدرجات التي تنظم هذه التراتبيات، بدءا من الدرجات الثلاث الأساسية، لدى الإسماعيليين والدروز، مرورا بدرجات الدعاة السبع لدى الإسماعيليين، وهو رقم يتكرر أيضا في العقيدة الدرزية مع أدوار الخليقة، والأنبياء وغير ذلك، وفي كل هذه الطوائف نرى ولعا كبيرا بالأرقام وتأويلات خاصة لها، كما نرى ولعا بالتكرار والمعمّيات والأسرار.
في طقوس الماسونية أشكال من تعريض طالبي الارتقاء في درجاتها لأنواع من التعذيب والإرهاب يصل إلى إشعار التلميذ المتدرج بأن حياته مهددة، كما تدخل في ذلك بعض أشكال المهانة والتحقير، وهو أمر يجد سبرينغيت ما يشبهه في طقوس إحدى فرق «النصيرية»، كما يرد في كتاب «الباكورة السليمانية» الذي يسجل حيثيات انشقاق سليمان الأذني عن طائفته، زاعما أن الشيخ سأله إن كان يقبل وضع أحذية حاضري الاجتماع على رأسه، قبل أن يقوم فعلا بوضع حذائه طيلة الاجتماع على رأس التلميذ.
وفي قراءته لجلسات داعي دعاة الإسماعيليين مع دعاته في «بيت الحكمة» في القاهرة، حيث يقبّل الدعاة يد زعيمهم، ثم لمسهم لتوقيع الحاكم بأمر الله بجباههم، والدرجات العديدة لارتقاء الدعاة في التراتبية «تشكل تسجيلا لا يقدر بثمن للماسونية»، يعتبر أحد الكتاب الذين استشهد بهم سبرينغيت أن بيت الحكمة كان «النموذج لكل المحافل التي أسست لاحقا في العالم المسيحي»، مؤكدا أنه بدراسته لطوائف سوريا السرية وجد الكثير من الأسس التي «تقوم عليها طقوسنا الحديثة، في الكثير من القواعد المرتبطة بالماسونية، وبشكل رئيسي في الدرجات الثلاث لجماعتنا».
فرسان الهيكل والإسماعيليون
يعرض الكتاب أشكالا أخرى من «امتحانات» الدخول في الدين (أو تسليمه)، ضمن عقائد الدروز، حيث تمتحن قدرة التلميذ على تحمل الصوم الشديد مع تعريضه لأشكال قاسية من الإغراءات الدنيوية، لكن الكتاب يقفز قفزة كبيرة حين يضع قسما منه تحت عنوان «العلاقات بين الدروز والماسونية»، ويستشهد بورقة نشرها باحث يدعى هاسكيت سميث عام 1891 يزعم فيها أن الدروز هم أبناء أتباع حيرام، ملك صور، وأن أسلافهم هم من بنوا معبد سليمان، وأنهم يحتفظون بآثار من علاقتهم الوثيقة بتلك الجــــذور التاريخية التي تعتبرها الماسونية جذورها، منتقلا بعد ذلك لتعداد أشكال أخرى من الأدلة، ما يراه تطابقا في شروط الدخول في الماسونية والعقيدة الدرزية، ومنها استبعاد النساء من قمة الهرم، والمقارنة بين المحفل والخلوة إلخ، وينتهي بحث سميث عن تطابقات إلى محاولات مضحكة لمعرفة إن كان الدروز يعرفون كلمات السر الماسونية!
لا يغفل الكتاب عن روابط تاريخية أخرى جعلت فكر الطوائف السرّية في سوريا والمشرق العربي، تحضر بشكل لاحقا في تنظيم الماسونيين الأحرار، الذي تم إنشاؤه في بريطانيا القرن الثامن عشر، وهو الخيط الذي يمكن استقصاؤه في خط التقاء الثقافات الذي مثلته القرون الثلاثة للحروب الصليبية، وكان أهم التعبيرات عنه تنظيم «فرسان الهيكل»، الذين اقتبسوا في تنظيمهم ودرجاتهم وعقائدهم الكثير من أفكار الباطنية الشرقية، وكذلك تعاليم «الكابالا» اليهودية (ويقال إنها بدورها لفلسفات باطنية مصرية أقدم)، وشكّلوا نظاما أوليا للمصارف في أوروبا، قبل أن يتم اضطهادهم وإقرار اعترافات لهم بعقائد تعكس تلك التأثيرات الشرقية، وقد عادت هذه الأفكار والتنظيم والطقوس بشكل كبير في تنظيمات الماسونية وطقوسها وعقائدها. غير أن الكتاب، استنادا إلى ماسوني آخر هو د. هـ. ر. كولمان، الذي يقول إن «فرسان الهيكل» أخذوا تلك الأفكار من الدروز.*
يمكن الخروج باستنتاجات كثيرة من هذا الكتاب لكنني أفضل اقتراح واحد منها فقط لا أعتقد أن الباحثين الكبار الذين كتبوا في موضوع الطوائف (كبرهان غليون وعزمي بشارة وأسامة مقدسي ومسعود ضاهر) قاربوه، وهو البحث في التحوّلات عبر التاريخية، حيث يمتزج الاجتماعي بالديني والسابق باللاحق، ولا يختفي القديم بل يتحوّل ويلبس اقنعة جديدة، فيحضر تموز في الحسين، وتحضر الأديان الفارسية والهندية القديمة في أديان وطوائف إسلامية، وهذا الجانب حول الموروثات القديمة التي ما تزال فاعلة في المجتمعات ما يزال مفتوحا على مصاريعه، وإمكانيات الحفر فيه كبيرة.