عمر قدور
بفضل مداولات الجولة السابعة لاجتماعات اللجنة الدستورية، التي اختُتمت يوم الجمعة، اكتشف السوريون أن طائر العُقاب واحد من رموز الدولة السورية. واكتشفوا على سبيل التأكيد أنه طائر العُقاب، حاشا وكلّا أن يكون النسر كما يشتبه الأمر على نسبة غالبة منهم، فالنسر يأكل الجيف، أي قد يأكل من مخلفات غيره، في حين تأبى عزة نفس العقاب إلا أن يأكل من صيده. هذه معلومة أخذت أيضاً طريقها إلى الانتشار بفضل مداولات اللجنة الدستورية، وانطلاقاً منها يمكن الاستزادة والبحث عن الفرق بين العُقاب والصقر والنسر.
وتفرّدُ الجولة الأخيرة بهذه الحصيلة يميّزها بحق عن جولات ست سابقة انقضت بلا أثر على الإطلاق، وهنا تنويه ليس على سبيل انتقاد إضاعة الوقت بأعمال لجنة اختُرعت في الأصل لإضاعته. وكان ينبغي لإدراك سبب اختراع اللجنة أن يمنع أعضاء في وفد المعارضة من إعلان الانسحاب منها قبيل الجولة الأخيرة، فمن الفضيلة الانسحاب بصمت لمن شارك في الجولات السابقة وما تخللها من تزجية للوقت، على الأقل لئلا يذكّر بوجوده فيها خلال أكثر من سنتين سابقتين.
من الإقرار بواقع حال اللجنة، تبدو ورقة وفد الأسد التي طرحت حول رموز الدولة السورية تنويعاً جديداً على التسويف المعتاد، أي بما لا يتعدى التواطؤ الذي تمثّله اللجنة ذاتها. والمصيبة التي تثير السخرية هي في أداء أعضاء وفد المعارضة وأولئك المحسوبين عليها من ضمن وفد المجتمع المدني، فهم يؤدون دورهم بمنتهى الجدية، وبتجاهل تام للواقع. هم كالتلميذ الذي يظهر جديته وإصراره على الدرس وسط ثلة من المشاغبين في حضور ناظر ركيك متواطئ معهم. وهم يظهرون كأنهم بلا نهاية سيؤدون دورهم الجاد وسط المهزلة، ودائماً تحت يافطة إحراج وفد الأسد وداعميه، وإثبات أنهم يعرقلون العملية السياسية فلا تتحمل المعارضة أمام “المجتمع الدولي” وزر إفشالها.
بموجب ما هو معروف عنها وعن تبعية قرارها، لا يُنتظر من هذه المعارضة اتخاذ قرار جريء مستقل من قبيل كشف المهزلة بأكملها، إعداداً وتأليفاً وتمثيلاً. لكن تستطيع، بقليل من الاستقلالية ورحابة المخيّلة، الانزياح عن دور الأهبل الذي يعتقد أن الحصول على الثناء بفضل جديته وتأدبه هو السبيل الوحيد الممكن. بهذا السلوك تضيّع المعارضة، على نفسها وعلينا، إسهاماً فعالاً في فرجة اللجنة الدستورية، وفي جعل مداولاتها أكثر لفتاً للأنظار ولجمهور تستهويه الطرافة، أو يستهويه الجديد بصرف النظر عن مضمونه.
في مقابل طائر العقاب مثلاً، كان في وسع المعارضة أن تطالب بأن يكون الهامستر السوري شعاراً للدولة السورية، فنحن على الأقل لدينا فصيلة معروفة علمياً بهذا الاسم، بينما ليس لدينا فصيلة تتميز بكونها العُقاب السوري. والعقاب رمز مستهلك في الأصل كـ”حيوان وطني” لكثرة استخدامه، ولا نعثر في سجل الحيوانات الوطنية على دولة تستخدم جرذاً خاصاً بها على النحو الذي اقترحناه، ففئة القوارض خارج دائرة الانتباه الوطني، بل قلما نعثر على حيوان وطني من فئة الزواحف كما هو حال فيتنام التي اختارت السلحفاة، ولم تختر حيواناً شرساً قوياً رغم أنها أنزلت هزيمة لا تُنسى بالقوة الدولية الأعظم الولايات المتحدة.
يصلح اقتراح من قبيل اعتماد الهامستر شعاراً لتسبغ المعارضة قليلاً من الهزل المستحق على مهزلة اللجنة الدستورية، ولنا حينها أن نراقب ردود أفعال أعضاء وفد الأسد، والمقارنات الخطابية التي سيعمدون إليها مدحاً للعقاب وتسفيهاً للهامستر المسكين. للهزل هنا مستويان، واحد منهما الثقافة الموروثة ولسان حالها: أين الثرى من الثريا وأين الهامستر من العقاب. التعبير الرث عن هذا الموروث تتكفل به خطابات وفد الأسد التي ستتغنى بأمجاد لا يليق بتمثيلها سوى العُقاب، بصرف النظر عن مآل سلطة الأسد الذي يحيل إلى أمجاد حُماته، ولا بد من خطابات مفوّهة تهين المعارضة ووفدها لاختيار حيوان وضيع مثل الهامستر واعتباره وفق ذلك ممثلاً للمعارضة لا للأسديين المعتادين على العز والمجد والسموات العلى.
ذلك سيكون أفضل أيضاً من أن توافق المعارضة على شعار العُقاب، وتتوقف فقط عند العلم المرسوم على جسده، وهو علم الوحدة الذي بات يُنظر إليه بعد الثورة كعلم للأسد. فضلاً عن الاستخدام الهزلي لشعار الهامستر، لعله يصلح لتقدّم المعارضة لمرةٍ فهماً مغايراً للموروث والسائد، وتتمايز عن سلطة الأسد بالتواضع وبعدم التفاخر بأمجاد حالية كاذبة، أو بأمجاد غابرة؛ حقيقيةً كانت أو متوهَّمة. فأوضاع السوريين الآن، وحتى منذ زمن طويل، أولى بالتواضع واختيار شعار ملائم له. لكن، من جهة أخرى لا تليق بهذه المعارضة، يكون من شأن “التواضع” التعبير عن ثقافة جديدة مضادة لتراتبيات القوة السائدة، والتي أجبرت ملايين السوريين خلال عقود على الإعلاء من شأن الأسد الذي يُعرف بأذاه، بينما لا نصادف تغنياً بالقطط المسالمة التي تنتمي إلى فصيلة السنوريات ذاتها.
وللمعارضة أن تنطلق من مثل هذا الاقتراح، صعوداً أو هبوطاً لا فرق، لتغطي مساحات النقاش الأخرى. يمكن لها مثلاً “مقابل الأبد الأسدي” أن تقترح ولاية للرئيس من ثلاثة شهور قابلة للتجديد لمرة واحدة، وبذلك تبني أيضاً على نجاح تجربتها في تداول المناصب منذ تأسيس المجلس الوطني. ولا بأس في أن تتجرأ على رحم الطغيان الأسدي فتقترح نظاماً برلمانياً للمركز مع كونفدرالية موسعة تطبّع مع انقسام سوريا الواقعي.
هناك بالتأكيد أكوام من الاقتراحات التي سنحظى، في حال قدّمتها المعارضة، برؤية موفدي الأسد وقد استُثيروا من الغضب، وسنراهم كيف يفرغون غضبهم على نحو يدعو إلى القهقهة. وأقصى ما سيتهم به موفدو الأسد المعارضة عدم جديتها في المداولات، أي تكرار الاتهام نفسه الذي يوجهونه للمعارضة وهي تلعب دور التلميذ المتأدب النجيب.
المهم في الأمر أن في وسع المعارضة تقديم اقتراحات بقصد الاستثارة والتسلية، بحيث تزيد من إبراز المهزلة التي تشارك فيها، وفي هذا رسالة غير مباشرة عن اضطرارها إلى مسايرة القوى الدولية والإقليمية المؤثرة عليها. نكسب في هذه الحالة تسلية حقيقية بدل الهراء الممل، ويُسجّل للمعارضة تحويل مداولات اللجنة إلى ما تستحق، إلى مسخرة، من دون أن تخسر شيئاً، ففي النهاية لا قيمة لكل الاقتراحات أو المداولات، وإذا كان من اقتراحات وحلول حقيقية، بما فيها اختيار الحيوان الوطني المناسب، فلن يكون مكانها اللجنة الدستورية.
المصدر: المدن