جسر : رأي
كانت معركة ريف حلب الغربي الأخيرة تعتبر بالنسبة لكثير من ثوار المدينة وريفها فرصة استثنائية لكسر مسلسل انتصارات حلف النظام من جهة، وإعادة الاعتبار لفصائل هذه المنطقة التي فككتها أو أجبرتها هيئة تحرير الشام على الخروج منها من جهة ثانية، لكن النتائج جاءت على غير ما يرام في النهاية.
فبينما كانت الآمال كبيرة بأن يعيد ثوار “الأتارب ودارة عزة وأورم وقبتان الجبل والدانا وسرمدا وباب الهوى وترمانين” وغيرها خلط الأوراق وإعادة الاعتبار للذات وللثورة، كانت التوقعات المبنية على معطيات الواقع والإمكانات والمتغيرات تؤكد على أن (العين لا يمكن أن تقاوم المخرز)، وأن فارق القوة المادية بين طرفي المواجهة واسع جداً، بل حتى العامل النفسي والمعنوي لم يعد لاعباً قوياً في جانب مقاتلي الفصائل منذ وقت غير قصير ونتيجة أسباب كثيرة.
فبينما يتساءل الكثيرون عن أسباب الانهيار المتسارع للفصائل في ريفي إدلب وحلب، والتداعي غير المسبوق للجبهات، فإن قلة فقط من اهتمت بالبحث عن إجابات معقولة لسؤال لا يمكن تجاوزه اليوم، وهو: ما هي الدوافع التي ما بقيت لتجعل الثائر الذي يحمل السلاح يستمر في القتال؟
تعالوا نضع أنفسنا مكان مقاتلي الفصائل الثورية اليوم، وبعد كل ما حدث خلال السنوات الماضية من متغيرات، وما تعرضوا له من ظلم واضطهاد وتهجير وتشويه سمعة، ولنطرح على أنفسنا السؤال بطريقة أكثر وضوحاً وبساطة: لماذا أقاتل؟
في بدايات الثورة وحتى عام ٢٠١٣ تقريباً، كان الثوار يحققون انتصارات كبيرة بأعداد مقاتلين قليلة وإمكانات ضعيفة، وكان الإقدام والاستعداد للموت لدى الغالبية أمرا واضحا طالما أن الثائر حتى ذلك الوقت كان مؤمناً أن تضحياته تعني التقدم أكثر نحو تحقيق أهداف الثورة، وهو استمرار عفوي وبديهي في الوقت نفسه للحماس الثوري الأول والاستعداد للموت من قبل المتظاهرين في مرحلة الحراك السلمي، الذين كان
كثير منهم في حلب، على سبيل المثال، يتمنون الشهادة من أجل تأجيج الثورة وتوسيع قاعدتها، إيماناً راسخاً بأن هذه الثورة ستحقق أهدافها بإسقاط النظام الديكتاتوري وإقامة دولة القانون والحرية.
بمرور الوقت، ومع إطالة أمد الصراع بالدرجة الأولى، حدثت الكثير من المتغيرات التي انعكست سلباً على نفسية المقاتل الثائر ومعنوياته، وكانت مقدمات طبيعية لانقلاب الموازين وإعادة ترجيح كفة النظام.
لقد شكل دخول وتزايد حضور ونفوذ الجماعات الجهادية في المناطق التي حررها الثوار بعرقهم ودمهم أول الضربات القاتلة، بعد أن بدأت هذه الجماعات بممارسة حرب معنوية خطيرة ضد الجيش الحر، تقوم على تشويه صورته وفصله عن حاضنته، من خلال إظهار مقاتلي الثورة على أنهم مجموعات من الفاسدين، أو في أحسن الأحوال فصائل تمثل الفاسقين دينياً، المرتبطين بالمخابرات سياسياً، الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت.. الخ من هذه الكليشيهات التي نجح الجهاديون في تعميمها إلى حد كبير داخل المجتمع، ما أضعف فصائل الجيش الحر ومكن القوى الجهادية من القضاء على بعضها وتفكيك بعضها وتهجير ما تبقى من مقاتليها..
وبالطبع استفادت هذه الحرب الإعلامية التي شُنت على الثوار من ميل بعض قادة الفصائل والمتنفذين فيها إلى التسلط، الذي يؤدي بالضرورة إلى الفساد، وتقسيم المناطق المحررة إلى مناطق نفوذ، ما فجر النزعات ما دون الوطنية، كالمناطقية والأسرية والعشائرية، بالإضافة للصراع على الموارد التي باتت متاحة كالنفط مثلاً، بدل تسليمها مؤسسات تضعها في خدمة المجتمع، فأثرى بعض هؤلاء القادة والمقربين منهم بالفعل، بينما ظل غالبية المقاتلين وأصحاب التضحيات يعانون بانتظار الخلاص الكبير الذي تأخر، ما عجل من انتصار الدعاية السوداء تلك، إلى الحد الذي مرت فيه فترة زمنية بات مقاتلو الفصائل يخجلون من القول إنهم (جيش حر)!
والحال كذلك، بدأت الغالبية العظمى من الثوار المسلحين يتساءلون منذ ذلك الوقت: لماذا نقاتل؟!
اعتباراً من تلك اللحظة بدأ لسان حال الكثير من المقاتلين يردد بألم شديد: هل نقاتل كي تزداد قوة المستبدين الجدد وتتنامى ثروات الفاسدين ومن تحولوا إلى أمراء حرب؟
أم هل نقاتل وسط حاضنة صدقت اتهامات الآخرين بحق أبنائها الذي ضحوا
وأصيبوا وافتقروا، وباتت تنظر إلينا كفاسدين ولصوص وفاسقين، خالطة بين الجيد والسيء، وواضعة الجميع بكفة واحدة؟!
أم هل نقاتل لكي يأتي الغرباء ويرثون النظام الذي نموت كي نتخلص من استبداده، فيكون البديل أن تحكمنا القاعدة ومنتجاتها، ونستبدل بالأسد الظواهري أو البغدادي أو الجولاني؟!
ثم ومع تزايد التدخل الإقليمي والدولي في المسألة السورية، وتوسع نفوذ الدول لدى أطراف المعركة، بات هناك إيمان شبه مطلق أن أهداف الثورة لم تعد مطروحة على جدول الأعمال، وأن القتال هو لتحسين شروط تفاوض هذه الدولة ومستقبل نفوذ تلك العاصمة وتحقيق أهداف الآخرين ومصالحهم في سوريا، فأضيف سؤال جديد لدى الثوار إلى سلسلة أسئلتهم السابقة هو: هل علينا أن نقاتل من أجل الآخرين في بلادنا؟
بالطبع الصورة ليست بهذه القتامة على قتامتها، وعلى الأرض ما يزال هناك أشياء يمكن القتال من أجلها والموت دونها، كالدفاع عن الأرض التي تحررت بالدم، وحماية المدنيين الذين يضطرون مع كل تقدم للنظام وحلفائه إلى رحلة نزوح جديدة في ظروف مناخية واقتصادية قاسية، لكن تفاوت موازيين القوى والامكانات والتسليح، يحد من تأثير العامل المعنوي ولا يبقي سوى الأمل بمتغير جديد كفيل بقلب الطاولة التي تسعى روسيا كل جهدها من أجل ترتيبها على هذا النحو.
نشرت في موقع تلفزيون سوريا 25شباط/فبراير 2020