جسر: لرأي:
نعم هي الثقافة التي من خلالها ترقى الأمم وتتقدم، وإذا كانت الثقافة قد تخلَّفت زمن حافظ الأسد، إذ حاول إبعادها عن حياة الناس العادية من خلال تعريفه لها على أنها: “الحاجة العليا للبشرية” وبذلك يكون قد حصرها في أمور طوباوية/مثالية بعيدة المنال..! والثقافة لا سقف لها مادامت الحياة قائمة.. فهي فعل يومي، تنعكس فيها مجريات الحياة، وعلاقات الناس، من خلال ما ترصده، وما تختزنه في ذاكرة الإنسان، وفي الكتاب، واليوم في عالم النت ولعل، بعضها، يتماهى، مع الزمن في جينات الإنسان فيغدو سلوكاً لا إرادياً.. والثقافة عمل ذهني يقوم به العقل المفكر الذي يقيس، ويوازن، ويحكُم بعد أن يحدد ما هو ضروري لبناء حياة الناس وتنميتها باستمرار رقياً إنسانياً، وتسامياً قيمياً، ويبعد، في الوقت نفسه، الخطأ المعرقل.. وبالتالي يحدد المسار الصحيح للوطن والمجتمع، وهذا ما لا يريده الحاكم المستبد، وعلى ذلك سار حافظ الأسد إذ لا يريد لأحد أن يكون معلماً معه أو يفرض عليه رأياً فأخرج حاجات الإنسان اليومية من تفكيره، ومن قاموس الثقافة. وإذا كان حافظ الأسد قد جنَّب النخبة الدخول في موضوع الثقافة الرئيس وهو البحث في أحوال الشعب (الرعية)، (لا شك في أن بعض المثقفين لهم خصوصيتهم، فقد قالوا كلمتهم، كلنا يذكر اجتماع اتحاد الكتاب عام 1979 وما جرى فيه، كما يذكر نتاج محمد الماغوط وسعد الله ونوس وطيب تيزيني..! ولكن ماذا عن الرعية ذاتها، أي العامة، وماذا فعل بها النظام؟!
في الحقيقة تركت لرجال الدين ليعملوا على تخدير الشعب بالحكايا والقصص التي تصلح في الغالب لأدب الأطفال، وللغرق في الأحلام أكثر مما تصلح لتفتيح عقل الشعب ووعيه ومن ثمَّ إنهاضه.. ويمكن الاستشهاد هنا بقول ماركس: “إن وظيفة رجل الدين لدى المستبد هو العمل على تغييب وعي الشعب..!” وهذا بالضبط ما نعنيه.. وأعطي مثالاً من الواقع عن تلك الحكايا التي نراها يومياً على هواتفنا: منذ يومين أرسل صديق لي قصة بطلها شخص مغربي رأى حلماً موجزه: “أن أحدهم طلب إليه أنْ يبلِّغ فلاناً الفلاني أنه في الجنَّة، وفلان هذا في المملكة السعودية.. فلم يكترث الرجل للحلم فتكرر عليه ثانية وثالثة ولما رأى الأمر على هذا النحو من الجدية حمل نفسه، وخبره، وذهب يبحث عن ذلك الشخص حتى وجده في مكة فقصَّ عليه ما رأى وما بُلِّغ به، فتفاجأ الرجل إذ لا يرى أنه يستحق الجنة فقد فعل ما فعل في حياته، لكنه تذكَّر أمراً ما هو أنه عندما توفي جار له تاركاً زوجة وخمسة أطفال أخذ يقسِّم راتبه بين أولاده وأولاد جاره المتوفى، فذكر الحادثة أمام ضيفه وكان أن حان وقت الصلاة فتوافقا على الذهاب لقضائها في الحرم، توضأ الرجل وذهب فصلى ركعة وثانية وثالثة ولدى آخر سجدة لم يرفع رأسه..” ما يعني أن روحه غدت بين يدي الله الذي أحبه فجعل موته عند الكعبة.. لا شك أن الحكاية تحض على التعاطف الإنساني، لكن شكلها يبعد عن العقل والواقع والحلول الصحيحة لحياة الإنسان.. إلخ ولما كان صديقي قد أدمن إرسال مثل هذه القصص.. وكنت قد جاريته في بعضها، كنوع من اللباقة واحترام الرأي الآخر، لكنني في الحقيقة مللت ذلك، وصرت إلى الغضب أقرب فأرسلت له ما يلي:
إن القصص التي ترسلها لي، صديقي، لا تهمني في قليل أو كثير وهي تهدر وقتي لدى قراءتها.. أما ما يهمني اليوم فمعرفة أسباب تخلفنا، كما رأى مهاتير محمد، عن معظم أمم الأرض؟! نعم لماذا تخلَّف العرب والمسلمون تحديداً، ولم يزالوا طبعاً! وما يشغلني حقيقة كيف يعمل هذا الهاتف الذي بين يديك؟ وكيف تقطع السفن الفضائية ملايين الكيلومترات إلى كواكب الأرض بمفردها وتعود محملة بالمعلومات عن تلك الكواكب؟! أفكر في أحفاد الرازي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم لماذا لم يبحثوا عن لقاح ضد كورونا.. أفكر في عدد الفايروسات المكتشفة حتى الآن وقد بلغت اثنين وثلاثين مليون فايروس..! أفكر في هذا الإنترنت الذي يخزن المعلومات على أقراص صغيرة كل منها يحتوي على مكتبة كاملة، وهو الذي يصلني بأبعد نقطة على الأرض، أتراه الذي اخترعه، فكر بأنه سيستخدم لنقل قصصك وحكاياتك أم لإيصال الأخبار والمعلومات العلمية الضرورية دقيقة بدقيقة وثانية بثانية.. أفكر لماذا قُتل مليون إنسان في بلدنا، وهجِّر ثمانية ملايين وتهدمت سورية بالكامل ولم يشعر بها أحد، ولماذا حدث تفجير بيروت ومن وراءه؟! تصوَّر أنه إلى وقت قريب كان متوسط عمر الإنسان ثلاثين عاماً.. أما اليوم، ورغم الحروب والأمراض الخطيرة كالسكر والسرطانات، وحوادث السيارات والطائرات، فقد ارتفع إلى أكثر من سبعين عاماً!
أعود إلى ما بدأت لأقول إذا كان أمر الثقافة هكذا عند حافظ الأسد وابنه فماذا فعل الثوار سواء كانوا على الأرض أم على جبهات القتال.. لقد بدؤوا بشن حملة على المثقفين فكنت لا ترى على صفحات التواصل الاجتماعي إلا عبارة أين المثقفون؟! وماذا فعلوا؟! ولماذا لم يقوموا بدورهم علماً أنَّ المثقفين -باحثين وأدباء وفنانين- لم يقصِّروا ضمن الإمكانيات المتوفرة لديهم وعكسوا جوهر نقائها لا المعادي للاستبداد فحسب بل صورتها المشرقة في سورية المستقبل.. الصورة التي كان يمكن أن ترى لكن الاستبداد منع ظهورها.. بالطبع كان يمكن للمثقفين أن يلعبوا دوراً في التوجيه السياسي وفي التثقيف التنويري لعشرات الألوف بل لمئاتها هؤلاء الذين التحقوا بالثورة، وهم شبه أميين، لكانوا جنبوهم الكثير من الأخطاء التي ارتكبت.. لا شك في أن الصبغة الواحدة التي اختص بها من هم على الأرض قد لعبت دوراً أساسياً في ذلك! وحتى إذا ما تجاهلنا هؤلاء وذهبنا إلى المجلس الوطني الذي قاده شيخ المثقفين السوريين ثمَّ إلى الائتلاف فماذا تراهما فعلا؟! ربما اكتفوا ببعض البيانات الإعلامية.. وما يقدمه بعض “محلليهم السياسيين” ولعلهم في العام 2016 قيموا مسيرة الثورة، ولكن في الواقع لا مجلة لا صحيفة لا هيئة ثقافية.. فقط كانت لديهم تجربة محدودة زمنياً مع موقع إليكتروني متواضع كان يمكن تطويره.. أما وزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة، فيبدو أنها كانت ترضية لهذا المكوِّن التمثيلي أو ذاك، وللحقيقة والتاريخ كانت الوزيرتان الأولى والثانية راغبتان بفعل شيء ما.. لكن المثل الشعبي: “العين بصيرة واليد قصيرة” قد انطبق عليهما..
ولكن هل غاب المثقف فعلاَ؟! أبداً لم يغب! بل بقي في خضم معركته شاهراً صوته يجود به رأياً حراً صوتاً وكتابة سواء كان إعلامياً أم باحثاً أم أديباً أم لاعباً في ميادين الفنون المختلفة يدافع دائماً عن جوهر الثورة وطهارة انطلاقتها الأولى، وغاياتها البعيدة، رغم أن الكثيرين منهم قد اضطهدوا إذ أبعدوا عن ميدان إبداعهم الذي لا يقيَّم بمال أو أي معادل مادي، فالأعمال الفنية لا معادل لها إلا نزيف روح مبدعها.. ويظل الأمل في إيجاد ثقافة حرة واعدة قائماً فبدونها لا يعلو أي بنيان.