جسر/ خاص
#ناجيات_أم_ليس_بعد
بوصولها مدينة إعزاز في حلب وصلت رانيا العكيش إلى بر الأمان، ثياب رثة ترتديها مع طفليتها وابنها رغم البرد الشديد، لا تجد جواباً حين تسألها طفلتها “أشعر بالبرد” فليس لديها ما تملك لتدفئ تلك الطفلة، استقبلها أهل إعزاز واستطاعوا تأمين مسكن متواضع لها ولكنه “قصر” بالنسبة لها فهناك باتت تعيش مطمئنة بعض الشئ، وهذا أقصى ما تطمح عليها. على سجادة مهترئة تجلس رانيا ابنة مدينة حمص لتروي لجسر قصة اعتقالها التي دامت سبع سنوات.
تقول رانيا الثلاثينية “كنت في الرابعة والعشرين من العمر عندما توجهت إلى دمشق مع اختي وأطفالنا بهدف العلاج، وفي طريق عودتنا في الثلاثين من آذار من عام ٢٠١١ استوقفنا حاجز بين حمص وحماه في منطقة بيرين ليأخذونا إلى منطقة تسمى كفر قدح، وطوال الطريق كان يلمسون جسدى ويتحرشون بي ولكن لا حول ولا قوة، وأخبرونا حينها أنه مجرد استجواب وسيخلى سبيلنا، ولكن الأمر طال وباتت التهم الموجهة لنا تزداد وهي التعامل مع المسلحين وتأمين انشقاق ضباط وتفجير جسر الشغور، وتسليم ضباط تابعين للنظام للجيش الحر وغيرها”.
دخل أطفالها الثلاثة محمد ست سنوات وايلاف أربع سنوات ومريم تسعة أشهر معها السجن خلال الأشهر الستة الأولى، في معسكر دير شميل، حيث قيل لها أنه مركز لتدريب شبيحة بشار الأسد وحزب الله “بتمنى كب أسيد على بشار الأسد وأحرقو كيف مربي هلجنود الي يلتذذوا بتعذيب العالم”.
بدأت مريم خطواتها الأولى وهي في السجن ، وكم كانت فرحة السجينات بها كبيرة رغم العذاب فقد كانت املاً لهم، جاء الهلال الاحمر ليأحذ الاطفال الثلاثة، تقول رانيا “بعد ستة اشهر من سجني أخذوا أطفالي، وهنا انهرت تماماً كنت أصرخ واركض أتوسل العسكر بان يتركوهم، لكن لا مجيب، أزحف زحفاً وأتوسل اليهم، فقام أحدهم وضربني برجله على ظهري وكسر أحد اضلاعي لكن كسر قلبي، ولم اشعر بألم الضلع”.
تعرضت رانيا للاغتصاب أكثر من مرة فتقول “كنت انا وست نساء اخريات من حصة الضابط المسؤول كوننا جميلات كلما خطر بباله يرسل على إحدانا ويقوم باغتصابها في مكتبه، إلا أن هذا هو أفضل نوع من الاغتصاب لانه على الأقل تكون الفتاة وحدها ويكون المغتصب واحد، بينما الاخريات يغتصبن بشكل جماعي وأمام بعضهن، وبالنسبة للحمل كان يحصل بشكل متكرر، وعندما يحين ولادة احداهن ياخذونها للمشفى ويولدونها كأنها حيوانة، وياخذون الولد لمكان مجهول حسب ما علمنا كانوا يربونهم ضمن مراكز خاصه وباشراف ايراني”.
تتابع “خديجة وحسنا من صلاح الدين بحلب تم اغتصابهما أمام جميع المعتقلين، وعندما صاح أحدهم معترضاً قاموا بإطلاق الرصاص عليه، قائلين ألم تطالبوا بجهاد النكاح؟ نحن سنجاهد بكم أيضاً”.
تنقلت رانيا بين العديد من الأفرع الأمنية في دمشق بين الأمن العسكري والأمن الجوي، وفي كل فرع يتم التفنن في أنواع التعذيب، بدءاً بالاغتصاب للحرق للسلخ لقلع الاظافر بآلات حادة “كانوا يجبروننا على خلع كافة ملابسنا ليلاً، ويقومون بربط أيدينا الى الأعلى ويصبون علينا مشروب ( عرق ) ويتلذذون بنا بوحشية”.
تجد رانيا الحديث عن الطعام المقدم ومستوى النظافة أمراً تافهاً فما قيمة الطعام والنظافة إذا كانت المراة تهان وتغتصب هكذا “كانت كاميرات المراقبه موزعه في كل مكان حتى في الحمام، وكان ممنوع علينا التحدث لبعض أو البكاء او الضحك وعندما يتم فتح الباب علينا من قبل السجان، نقوم بالتوجه للحائط ونمنع من النظر إلى من دخل، ويختلف الطعام المقدم من فرع لآخر، إلا أن كافة الأفرع كانت تقتصر على تقديم وجبة صباحية واحدة إما قطعة خبز أو قطعة جبن مع كسرة خبز واحياناً لا شئ “حسب مزاجهم”، وبات انتشار الديدان والقمل في الزنازين أمراً عادياً ومألوفاً، فكافة السجون عبارة عن أقبية تحت الأرض بلا تهويه ولا شمس”.
ايلاف ابنة المعتقلة رانيا تقطع حديث والدتها لتقول “بتذكر لما كانوا يشلحوا أمي ويعلقوها ويكبو عليها المي بعدين يشغلوا الكهربا” كانت حينها تبلغ من العمر خمس سنوات “كانوا يأخدوني أنا وأخي محمد، ويسألونا وين الماما بتخبي سلاح، نقلن تحت الكنباية لان اذا قلنالن لا كانوا يبطلوا يعطونا بسكوت”.
تضيف رانيا “كان الموت يخيم علينا من كل جانب، من النساء منهن توفيت منذ أول أيام اعتقالها، ومنهن من فقدت عقلها، ومنهن من تجدهن احياء على شكل أموات بنفسيات مدمرة”. ذكر الله والامل به لم يفارقها لحظة، وهذا ما أعطاها الصبر طيل فترة اعتقالها الطويلة، تقول رانيا “أكثر ما حز في نفسي عندما أعملوني أن زوجي وعائلتي بأسرهم قتلوا في قصف للنظام وقتل من تبقى في مجزرة الحولة ومن هرب إلى دمشق فتل في القصف الكيماوي للغوطة، وأيضاً قتلوا شقيقتي أمامي عندما أطلقوا النار عليها، إذ أنها اعترفت بكل ما نسب إليها من أعمال إجرامية”،“أختي خرفت من كتير التعذيب ومعادت تعرف شو عم تحكي قوصوها قدامي”.
دفعت رانيا سبع سنوات من عمرها في سجون النظام، لكنها تفضل عدم الافصاح عن سبب خروجها، وكل ما تقوله” دفعت ثمناً كبيراً من عمري لذنب لم اقترفه، حسبي الله ونعم الوكيل”.
خرجت رانيا من السجن أواخر عام ٢٠١٧ حين وجدت نفسها مرمية دون حجاب في أحد أحياء دمشق، بثوب مشقق ودون حذاء والحروق تغطي جسدها، دون أن تعي أين هي، فقد تعرضت لضرب شديد قبل رميها في الشارع، وبتعافيها بدأت رحلة البحث عن أولادهافي جميع الملاجئ التي تربي الأطفال بمدينة دمشق إلى أن عثرت عليهم، توجهت إلى مدينتها حمص وتحديدا ً حي القصور، ولكن كما قيل لها لم تجد أحداً سوى بيوتاً مهدمة وخرائب، فالكل قتل ولم يبق شئ.
عانت رانيا كثيراً مع طفلتها الصغيرة فقد فارقتها وهي تبلغ من العمر عاماً وبضعة أشهر، لتراها طفلة في السابعة من العمر لم تتعرف عليها ورفضت أن تعترف بها كأم، ولكن عندما وجدت أشقائها يتعاملون بشكل طبيعي مع والدتهم، تأقلمت مع الوضع.
نوبات هلع وخوف تصيب رانيا كلما رأت زياً عسكرياً ولا يختلف الأمر إن كان العنصر تابعاً للنظام أم للجيش الحر، فتركت دمشق وحمص متوجهة إلى إعزاز بحلب، استقبلها أهال ممن أحسوا بوجعها وقدموا لها ما استطاعوا من مساعدات مادية، تروي قصتها بألم كبير وهي تمسك “مسبحة” والدتها الشئ الوحيد الذي حرصت على أن يرافقها طيلة رحلتها تقول”هالمسبحة ما ببيعها بكنوز الدنيا هي من ريحة أمي”، تنظر لأطفالها الذين يلهون قائلة “هؤلاء هم أملي في الحياة، وكل ما أسعى إليه أن أعلمهم، وأؤمن حياة كريمة لهم”.