جسر: رأي:
يغادر الغرب بخطى متسارعة مواقعه في الحرب على الإرهاب، ويصنفها في خانة الحروب اللا-منتهية، بل يهبط بها في نسخ أكثر ازدراء، إلى مجرد مخاوف أمنية يسببها التطرف الإسلامي لكن يمكن التعايش معها، شأنها شأن الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والهجرة وتجارة السلاح، حارماً تنظيمات الإسلام السياسي بذلك مما يمكن تسميته بـ”التغذية الراجعة”، التي كان يزودها بها عبر اظهار الفزع والتحدي والاستفزاز.
حين طرح صموئيل هنتنغتون، قبل أكثر من ربع قرن، نظريته حول صدام الحضارات في مقاله الشهير، ووسم العالم الإسلامي بصفات فاقعة مثل “حدود الدم” و”تعارض قيمه مع القيم الغربية”، كان يستند إلى أطروحة لبرنارد لويس أذاعها العام 1957، ولم تجد أي صدى حينها. فقد كان للغرب عدو، هو الشيوعية الدولية، وكان العالم العربي، الذي هو قلب العالم الإسلامي، مشغولاً بالدعوة القومية المتأججة. ولم تكن دعوة هنتنغتون، مطلع التسعينيات، لتلاقي كل ذلك الرواج لولا أن الغرب من جهته كان فعلاً بحاجة إلى وجهة يقاتل عليها، وملء الفراغ الذي تركه اختفاء الاتحاد السوفياتي. من جهة أخرى، كان العالم العربي يرزح تحت خيباته من القوميين، وكان استحضار المسلمين كأكبر تهديد للعالم والحضارة الغربية يهيج فئة من المسلمين اليائسين. لهذا، لم يكن غريباً على الاطلاق أن تبدأ هجمات تنظيم القاعدة على المصالح الغربية، بالتزامن مع صدور مقالة هنتنغتون، وكأنها صدى مباشر لها، وعلى نحو يوحي بأن نظرية صراع الحضارات ليست سوى نبوءات ذاتية التحقق.
لقد عملت مكبرات معينة في الدوائر الغربية على تضخيم وتعميم كل إشارة عدائية تصدر عن العالم الإسلامي، وسيطرت الإسلاموفوبيا على الجدل السياسي والإعلامي والأكاديمي هناك. وفي العالم الإسلامي، حيث الدين مكون أساس من مكونات الثقافة الشعبية، استنفرت “الحرب على الإسلام”، خصوصاً مع وصفها بالحرب الصليبية، طاقته الحيوية القصوى للردّ، وفاقم المعضلة ترافق هذه الأطروحات مع زحف العولمة التي اخترقت كافة المجتمعات البشرية التقليدية، فارضة عليها نمط الحياة الغربي.
من ناحية أخرى، ناسبت الحرب على التطرف، النخب الحداثية في العالم الإسلامي، التي وجدت في الدين ضالتها لتفسير فشلها التنويري. كما ناسبت النخب السلطوية الحاكمة التي عثرت أيضاً على ما يبرر فشلها التنموي وقمعها العنيف لشعوبها، فرددت كلتاهما الصدى وضخّمته.
في هذا الشهر، نشر الكاتب الأميركي مسموع الصوت، توماس فريدمان، مقالاً أكد فيه أن مواضيع الحروب المقبلة هي الصين والبيئة والأوبئة، من دون أن يذكر شيئاً عن التطرف أو الإرهاب الاسلامي. وعند تطرقه الى الشرق الأوسط، قال إن الغرب سيكفّ عن محاولة صناعته، وسيحيل مهمة تشكيله للطبيعة الأم! وتحدث الرجل باستفاضة عن المياه التي يمكن للإسرائيليين مقايضتها بالأرض الفلسطينية، وشمس الأردن التي ستتحول إلى طاقة سلام. وعندما تحدث عن أفغانستان، لم يتطرق إلى استيلاء “طالبان” على الحكم، بل أشار إلى أن هذا البلد يعاني هذا العام أسوأ موجة جفاف منذ 30 عاماً.
لقد اعلن المنظّرون الحرب على الإرهاب، لكن صنّاع السياسة سبقوهم إلى اعلان نهايتها، فقد أعرب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عن رغبته في الانسحاب قبل سنتين، بعبارات أوضح من مجازات فريدمان: “أريد أن ننسحب من تلك البلاد، ليس هناك سوى قبائل تتصارع ورمال.. هناك الكثير من الرمال”. ثم صار الأمر جلياً أكثر، في حقبة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، الذي انسحب من أفغانستان بكل بساطة وسلّم البلاد لأكبر جماعة جهادية في العالم، وهو يخطط لجعل السنوات المقبلة خالية من ذلك النوع من الحروب، إذ أكد خبراء أميركيون أن خطط البنتاغون للسنوات الأربع المقبلة، والتي تولي جلّ عنايتها لسباق التسلح الفائق مع الصين، لا تولي الحرب على الإرهاب أي اهتمام.
أشار مقال نشر مؤخراً في مجلة “فورين بوليسي” إلى أن 549 أميركياً فقط قتلوا جراء الهجمات الإرهابية خلال الأعوام العشرين الماضية، بينما تسبب كوفيد-19 وحده بـ730 ألف حالة وفاة بين الأميركيين. وأضافت المجلة: “أن على الولايات المتحدة أن تتعلم كيف تزن الأخطار المختلفة بشكل أكثر عقلانية”. في الميدان العسكري، كشفت الحروب المتتالية، ضآلة قدرة التنظيمات الجهادية. فتنظيم “داعش”، الذي وصف بأخطر تلك التنظيمات وأكثرها تشدداً، هُزم، بحفنة أسلحة تقليدية من حقبة السبعينيات، وبمعاونة قوة محلية صغيرة هي الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني، وسقط التنظيم من دون أن يسقط جندي أميركي واحد في جبهات القتال. تتركز خطورة التنظيم، عسكرياً وأمنياً، في الانتحاريين الذين يسببون الذعر ويحصدون نتائج مؤثرة نسبياً بفضل قدرتهم على التضحية بحياتهم ذاتها، وصناعة هؤلاء تمرّ قبل كل شيء بمناكفة الغرب، والشعور بعدائه وخوفه معاً على نحو ملموس.
لا يسعى هذا المقال إلى التقليل من خطر التطرف الديني في المدى المنظور داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها. فهو ليس صفراً، وسيبقى الطريقة الأكثر حدّة للاحتجاج على الأنظمة الشرق أوسطية والبؤس الذي تعممه، والتي يجدر بفريدمان وغيره ممن يسدون لها النصح وتسمعهم، أن يلفتوا عنايتها إلى أن المشكلة تكمن في احتكار السلطة والفساد والقمع العنيف للمجتمعات. أما عن البيئة، فنحن نعرف، منذ أيام ابن خلدون، أن القحل وشظف العيش هو مبتدأ دورة قيام وأفول الممالك والدول في شرقنا الأوسط، وهو لم يأت بنظرية جديدة هنا.
المصدر: المدن