حازم الأمين
الفيديو الوثيقة الذي نشرته الغارديان والذي يوثق بصرياً إقدام ضابط من جيش النظام السوري على إعدام ٤١ من المعتقلين في العام ٢٠١٣، جاء بموازاة جهد بصري أيضاً، تبذله أقنية تلفزيونية عربية خليجية ومصرية لتقديم صورة مختلفة للنظام في سورية. نحن هنا أمام فيديو وثيقة، في مواجهة مشاهد درامية مفبركة وركيكة وكاذبة، وراء تصوير الأول جندي قرر فضح رئيسه وناشطة اشتغلت على تعقب قصة الضابط المجرم على مدى نحو ست سنوات، ووراء تصوير الثاني نوايا “أنظمة الاستيعاب” في الخليج، وشركات إنتاج لبنانية ومساعي النظام المصري لتعويم قرينه السوري.
تحضر المقارنة بين المشهدين السوريين لتكشف حجم التواطؤ الذي يتعرض له السوريون، فبين فيديو الغارديان وفيديوات المسلسلات الرمضانية يجد المرء نفسه أمام مفارقة مؤلمة فعلاً. مسافة قصيرة جداً بين الحقيقة وبين الكذب، والكذبة هنا لم يرتكبها النظام، ذاك أن الأخير قتل على مرأى من العالم، وهو لا يشعر بالحاجة للنفي أو لافتعال تحقيق أو محاسبة شكلية، الكذبة يرتكبها نظام الرعاية والاحتضان والتعويم العربي والدولي، الذي أشاح بوجهه عن الوثيقة الجديدة، وواصل اتحاف الصائمين بمسلسلات العار التي تبشرنا بعودة سوريا الأسد إلى “الحضن العربي”.
لن يحدث الفيديو الوثيقة انعطافة في المساعي العربية والدولية لتعويم بشار الأسد مجدداً، إلا أنه سينضم إلى “ملفات قيصر” كوثيقة تثقل على ضمائر كثيرة يقظة وتراقب خطوة الاقتراب من نظام الأسد بوصفها سقطة أخلاقية تاريخية سيتم استحضارها على مدى عقود في مواجهة من يدعي أي بعد أخلاقي ينطوي عليه خطابه السياسي.
طبعاً، مواجهة أنظمة الخليج بهذا الادعاء، في سياق تقاربها مع نظام الأسد ليس في مكانه، ذاك أن هذا التقارب ليس بعيداً عن مقولة “إن الطيور على أشكالها تقع”، والأمر بالنسبة إليها لا يتعدى جهداً تبذله لإنتاج مسلسل تلفزيوني يعوزه الخيال والكفاءة، بتقنيات تصوير عالية. لكن هنا يحضر الغرب الصامت على هذا النظام منذ محو باراك أوباما “الخطوط الحمر”، والذي بموازاة صمته يواصل إعلامه فضحاً مكثفاً لجرائم النظام، وهي بالمناسبة تفوق جرائم بوتين في أوكرانيا، وعلى رغم ذلك لم يُبنَ على كل هذا الفضح سوى مراكمة الوثائق والفيديوات في الخزائن.
اذاً على العالم، في سياق “انفتاحه” على النظام في سوريا، أن يشيح بأنظاره عن المجزرة، وعن قصص القتل الموثقة. “الواقعية” القذرة تتطلب ذلك، وقتال “داعش” ومفاوضات فيينا، وإعادة العمل بأنابيب النفط والغاز المتوجهة من الأردن إلى لبنان ربما! النظام يقول للعالم لكي أمرر لكم هذه الرغبات عليكم أن تمرروا لي هذه المجازر. ثمة خلل هنا لن تقتصر تبعاته على السوريين، انما ستمتد إلى دول ومجتمعات ستصيبها قذارة السياسة بوصفها إدارة “واقعية” للمصالح. الشركات الألمانية ستتوجه للاستثمار في ايران بعد توقيع الاتفاق النووي في ظل تواطؤها، لا بل قبولها، بالمجزرة، وفرنسا التي تستعجل التسوية مع النظام، ستصطدم “قيم الجمهورية” فيها بمشاهد المقتلة السورية.
لكن للفيديو وكما للوثائق التي سبقته وظائف تتعدى خيبتنا بالضمير العالمي، فملفات قيصر ما زالت حاضرة في خطاب أخلاقي وثقافي مواز، وهذا الحضور يفضح الصمت مثلما يفضح المرتكب. ومن هنا يبدو الجهد التوثيقي الذي أقدمت عليه الباحثة السورية أنصار شحود بمساعدة الأكاديمي التركي أوغور أوميت أنجور يتعدى في وظائفه سجالاً عابراً كالذي نخوضه مع صمت العالم على جرائم النظام، إلى تثبيت حقائق لن يتمكن أحد من تجاوزها في تأريخه لسوريا ولنظام البعث الذي يحكمها منذ أكثر من خمسة عقود. نحن هنا حيال قتل جماعي معلن، وحيال وجوه المرتكبين وأسمائهم وعناوين سكنهم ونشأتهم، وفي المقابل حيال نظام لا يشعر بالحاجة للإجابة عما جرى، لا بل أن أحداً لم يسأله ولن يسأله. فالأسد يقول للعالم ها أنا ذا، لن أزيح خطوة واحدة عما أنا فيه، ولن أقدم تنازلاً صغيراً للضحايا.
لم يبق أمام السوريين، وهم في معظمهم ضحايا هذا النظام، سوى التعويل على المستقبل لهضم ما أصابهم خلال العقد الفائت. الهزيمة المؤلمة مرفقة بوثائق تشير إلى حجم الجريمة التي ارتكبها “المنتصر”. التعويل هنا على أن هذا “النصر” لن يستقيم، وأنهم ليسوا وحدهم من أصابتهم الهزيمة، بل منظومة قيم تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وفيديو الغارديان هو قرينة جديدة على ذلك.
المصدر: الحرة