جسر – صحافة
وفيما يبدو للوهلة الأولى أن الموضوع مرتبط بالصواب السياسي المنتشر في الديموقراطيات الغربية بين الصحافيين تحديداً، وفي وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، وهو ما مالت إليه تعليقات مجلة “نيوزويك” الأميركية في ملاحظتها للتغريدات العربية بهذا الخصوص، فإن ذلك ليس دقيقاً تماماً، بقدر ما يرتبط بموقف معاد للغرب والولايات المتحدة خصوصاً أنه يأتي من شخصيات تدعم علناً الديكتاتوريات المحلية كالأسد في سوريا أو صدام حسين سابقاً في العراق أو ترفع شعارات حزب الله وصور الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، ويتمنى أصحابها لو كانت وفاة أولبرايت “طعناً أو دهساً مثلما تستحق”.
ويعني ذلك أن قسماً من الشامتين بأولبرايت، منافقون في موقفهم السياسي هذا، ففيما يبررون جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان على أيدي زعماء يؤيدونهم، من منطلق انفصال السياسة عن الأخلاق، كونها تتطلب أحياناً القسوة والقوة من أجل الوصول إلى الهدف المطلوب حتى لو عنى ذلك حرباً وقصفاً وتشريداً، فإن ذلك الرأي يتوقف عند حدود المحور السياسي، ويصبح المعادون له، عندما يقومون بالأفعال نفسها، مجرمي حرب يهربون من العدالة، ومتغطرسين يجب إيقافهم عند حدهم، وهو ما قام به الرئيس اللبناني السابق إيميل لحود عندما أغلق الهاتف في وجه أولبرايت، بحسب التغريدات الممانعة على سبيل المثال. وبهذه النظرة الازدواجية لمعنى الألاعيب السياسية، تصبح أولبرايت التي كانت تقوم بعملها فقط كوزيرة خارجية أميركية، “حمالة الحطب” في اقتباس من القرآن يصف زوجة كبير “كفار قريش” أبو لهب.
وهكذا يتم استذكار تصريح قديم يعود للعام 1996 ردت فيه أولبرايت عندما كانت سفيرة لواشنطن في الأمم المتحدة، على سؤال خلال مقابلة صحافية في برنامج “60 Minutes”، بأن مقتل نصف مليون طفل بسبب الحصار في العراق كان أكبر من عدد الأطفال الذين قتلوا في هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية، لترد بأن ذلك كان خياراً صعباً للغاية لكن الأمر كان يستحق. طبعاً لا يتم النظر إلى سياق التصريحات ولا سياق العقوبات والحرب على العراق. فصدّام حسين، بالنظر إلى كثير من المغردين يبقى بطلاً قومياً أطاحه الغرب المتغطرس، رغم أنه شخصياً كان مسؤولاً عن مقتل مدنيين عراقيين وكويتيين وإيرانيين ولا يمكن نسيان استخدامه السلاح الكيماوي في حلبجة العام 1988.
والحال أن الخطاب نفسه الذي يكرره الممانعون والقوميون الناصريون عن صدّام، تكرر عن بشار الأسد في السنوات الأخيرة، إثر إقرار قانون “قيصر” الذي يفرض عقوبات على النظام السوري. وفي الحالتين، الصدّامية والأسدية، لا ينقل المناهضون لأميركا انتقاداتهم الحقوقية إلى المستوى المحلي ولا يظهرون تعاطفاً مع الضحايا المدنيين الذين يقتلون على يد الجيش السوري مثلاً، ويصبح الأسد المسؤول عن مقتل نحو نصف مليون سوري وتشريد نصف سكان البلاد بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، بطلاً قام بما توجب عليه القيام به مهما كان صعباً من أجل بلده ووطنه!
وحتى في الجانب السوري المعارض لنظام الأسد، على سبيل المثال، برزت مقاربة تقول أن أولبرايت كانت السبب في مباركة واشنطن لتسلّم بشار الحكم بعد وفاة والده حافظ العام 2000 لتعويم مقولة تفيد بأن الولايات المتحدة دائماً كانت داعمة للنظام ضد الشعب السوري حتى بعد الثورة العام 2011 وأنه لا يمكن أبداً الاعتماد على الغرب. وهي مقاربة ظهرت بشدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أيضاً، استاءت من الدعم الغربي لكييف في وجه موسكو مقابل التخلي عن سوريا للكرملين، رغم أن السوريين في العموم يظهرون مزاجاً معادياً للغرب مهما كانت ولاءاتهم السياسية، وهو ما يظهر بوضوح في الأغنية الثورية المعارضة “حنّا ما نحتاج الناتو”.
وفي بلدان الشرق الأوسط الشمولية التي يتحكم فيها أفراد معينون بكل تفاصيل الحياة اليومية وينتشر فيها التطرف والتحريض على مدار الساعة، تبقى فكرة المؤسساتية التي تحكم الحياة في العالم الغربي بما في ذلك السياسة نفسها، مستهجنة وبعيدة من النقاشات. وليس من الغريب بالتالي أن تتم شخصنة الأمور وتحويل أولبرايت إلى العدو الذي وجّه سياسات الولايات المتحدة ضد مصالح العرب والإسلام، بسبب كونها “يهودية” و”حاقدة” وغير ذلك من الصفات التي تدور في فلك نظرية مؤامرة تقول أن هناك من يقود السياسات العالمية في الخفاء ويوصل شخصيات محددة إلى دوائر الحكم من أجل تنفيذ الأجندة الصهيونية المعادية للعرب من أجل إيقاف “تقدّمهم” ومنعهم من قيادة العالم والعيش برخاء ونشر حضارتهم.
والحال أن أولبرايت كانت امرأة بارعة وقوية في السياسة (في الجناح السياسي الذي فاز بالانتخابات وقتها وهي تنتمي إليه)، مثلما هي في الحياة الشخصية، حيث شقت طريقها من عائلة لاجئة مهاجرة من تشيكوسولفاكيا إلى العمل في الصحافة والسياسة والتدريس الأكاديمي في جامعة “جورج تاون بي”، واشتهرت بالحديث عن وضع النساء في الوظائف والأعمال التي يهيمن عليها الذكور، وعلمتهن أهمية التحدث بصوت عال ومقاطعة الآخرين لإسماع أصواتهن. وأوصلها العمل الأكاديمي للنشاط في الحزب الديموقراطي لتصبح أول امرأة تتقلد منصب وزارة الخارجية في ولاية الرئيس السابق بيل كلينتون الثانية العام 1997.
وكان لأولبرايت التي دافعت عن قيم الديموقراطية حتى وفاتها، أسلوب دبلوماسي فريد خاص بها وهو استخدام ملحقات الزينة في عملها الدبلوماسي. وقالت أنها استلهمت الفكرة في البداية من تشبيهها من قبل وسائل الإعلام العراقية بـ”الأفعى التي لا مثيل لها”، بسبب موقفها من صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى. وقالت أولبرايت في تصريحات صحافية العام 2009: “كان لدي دبوس قديم رائع على شكل ثعبان وعندما كنا نتعامل مع العراق كنت أرتدي ذلك الدبوس”، حسبما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
ورأت أولبرايت أن هذا تكتيك وأسلوب فعال لإيصال الرسالة التي تبتغيها للطرف الآخر. فالدبابيس التي كانت على شكل سلاحف أو زهور أو بالونات كانت لها تفسيرات خاصة بها. وفي إحدى المناسبات ارتدت أولبرايت دبوساً على شكل حشرة عملاقة عندما اتضح أن الروس متورطون في فضيحة “تنصت”. واستذكرت لقاء فاتراً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ارتدت خلاله دبوساً على شكل قرد في إشارة ضمنية إلى مقولة “لا ترى ولا تتحدث ولا تسمع الشر” الممثلة بثلاثة قرود أحدهم لا يتحدث والآخر لا يرى والثالث لا يسمع. كان الهدف إيصال رسالة إلى بوتين مضمونها أن العالم يرى ويسمع ويتحدث عما يجري في جمهورية الشيشان.
بعكس ذلك، في منطقة تعبد الرجال الأقوياء ومازال فيها المجتمع والثقافة الجمعية ذكوريين إلى حد كبير، فإن أولبرايت، ومن بعدها كوندليزا رايس وهيلاري كلينتون، وغيرهن، مجرد كونها امرأة صارعت الرجال في ميدان السياسة، يبقى مقلقاً لراحة كثيرين. وليس غريباً إطلاق صفات ذكورية سامّة عليها مثل “العجوز الشمطاء” و”الأفعى الخبيثة”. وبموجب هذا المنطق يجب أن تبقى المرأة في السياسة داعمة للقائد الرجل، كأسماء الأسد على سبيل المثال التي بقيت طوال سنوات الثورة السورية تظهر بدور البطولة الثانوية (ولو لم تكن في الحقيقة ثانوية) في فيلم دعائي طويل من بطولة بشار، حتى في لحظات ضعفها مثل عند إصابتها بالسرطان وشفائها منه قبل سنوات.